غازي القصيبي... الإرث الحيّ

تجربة استثنائية في الإبداع الأدبي والإداري

AFP
AFP
الراحل غازي القصيبي

غازي القصيبي... الإرث الحيّ

الرياض: على الرغم من مرور ثلاثة عشر عاما على رحيله، لا يزال الوزير الأديب غازي القصيبي، مالئ المشهد الثقافي وشاغله، مثله مثل شاعره الأثير أبو الطيب المتنبي الذي كان الراحل الكبير من أشدّ محبّيه. بل يمكن القول إن أثر القصيبي بعد الرحيل، لا يقلّ عنه في الحضور، فهو ظاهرة ثقافية حيّة، حتى أنه لا يكاد يمرّ يوم دون استحضار إرثه الأدبي وفكره الحرّ ومآثره في خدمة وطنه. فلماذا لا يزال القصيبي يتمتع بهذا الحضور الطاغي، وما الذي يجعل منه قدوة لكثيرين في جعل الابتكار والإبداع سمتين دائمتين في كلّ ما قام به سواء شعرا وأدبا أو في مجال العمل الديبلوماسي أو في فضاء الخدمة العامة؟

يقول رئيس "الجزيرة الثقافية" بجريدة "الجزيرة" سابقا، التي أصدرت كتاب "الاستثناء: غازي القصيبي.. شهادات ودراسات"، الدكتور إبراهيم بن عبد الرحمن التركي العمرو: "لا يمكن النظر إلى غازي القصيبي على أنه واحد بل هو متعدّد، ولا يمكن النظر إليه على أنه شاعر، أو روائي فحسب، أو باحث أو أكاديمي أو وزير أو سفير أو ما تلا هذا أو تبعه وما اهتم به من أنشطة متعدّدة. لذلك فإن بقاء القصيبي بيننا على الرغم من مرور ثلاثة عشر عاما على وفاته وبجذوة لم تختلف، لا يمكن أن يُعزى الى أي اهتمام آخر أو الى أي وسيط آخر، فهناك من رحلوا وربما كانوا أكثر وجاهة في المجتمع وأكثر مقدرة على التواصل والتأثير في حياة الآخرين، ولكن حضور غازي القصيبي امتدّ بيننا وسيظلّ ممتدّا أكثر".

يرى التركي أن حضور القصيبي "امتدّ في البدء من كونه أستاذا أكاديميا أتى إلى التدريس الجامعي في وقت مبكر نهاية ستينات القرن الماضي، لتتوالى إنجازاته دون توقف. فظهرت في ذلك الوقت بعض دواوينه التي كان لها تأثير كبير وغدت لها إشكاليات معينة، وأضرب مثلا بديوانه ’معركة بلا راية’، ومع هذا فإنه لم يستسلم للهجوم والإشكالات التي تعرّض لها، بل استمرّ إلى أن صار عميدا لكلية العلوم الإدارية ثم رئيسا للسكة الحديد فوزيرا للصناعة والكهرباء، ومن يذكر تلك الفترة التي لم تكن فيها الكهرباء منتظمة في المملكة بل كانت –حقيقة- بدائية من ينظر إلى مشروع سابك، ومن ينظر أيضا إلى وزارة الصحة على الرغم من أنه لم يمكث فيها سوى عامين ويرى الإنجازات التي أتمّها القصيبي خلال فترة وجيزة سيعرف كما هو استثنائي حقا. كل هذه المنجزات وغيرها منحته وستظل تمنحه وهج البقاء بيننا.

بقي القصيبي وأظنه سيبقى حيا بيننا، لأن ما قدمه مختلف عما قدمه غيره. هو متعدّد وإن كان مفردا، وهو واحد لكننا كنا وسنظل نراه مجموعة أشخاص

إبراهيم بن عبد الرحمن التركي العمرو

تَميّزُ القصيبي، بالنسبة إلى التركي، لم يكن مختلفا حين تولى العمل الديبلوماسي حينما سفيرا في البحرين، أو في بريطانيا "حيث أثر وأثرى وأوجد للسفارة دورا آخر، ثقافيا وإعلاميا. حتى معركته في 'اليونسكو' التي ربما تكون خسارته الوحيدة، كسبها إعلاميا بل ومنحته انتصارات عِدّة. ولم تتوقف تلك الانتصارات حين عاد إلى العمل الوزاري، والتي لم تكن برغبته، إذ ذكر بأن الملك عبدالله –رحمه الله- استدعاه وطلب منه ذلك، وبالتالي تولى أكثر من وزارة، ومنها المياه. ووضع الماء كان بحاجة ماسة إلى مثل القصيبي. ثم ضمت إليه وزارة الكهرباء والصناعة، ثم عمل في وزارة العمل ونعرف ما معنى وزارة العمل بما فيها من بطالة ومشكلات تحتاج إلى معالجة، وقد نجح في كل ما نُصّب فيه أو نُسب إليه وكان مُبرّزا فيه".

القصيبي (أقصى اليسار) في صورة مع أعضاء اتحاد الطلاب العرب.

هذا في الجانب الإداري، أما في الجانب الثقافي فـ"سنرى أن القصيبي اخترق النطاق الشعري الذي كان فيه وأوجد له فيه مكانا مختلفا ومميزا بجدارة واقتدار. ثم انتقل إلى الجانب الروائي فجاءت روايته "شقة الحرية" سواء اتفقنا معها أو اختلفنا من حيث مستواها الفني عاليا كان أو اقل –لا شك- أنها كانت فتحا جديدا في الإبداع السعودي وفي تناول ما كان محرما من حيث اقترابها من بعض التابوهات التي تبدو اليوم عادية. فالتابو أو 'المحرّم" يختلف باختلاف البيئة والزمان والمكان، وبالتالي لا يمكن أن يظل مطلقا. إضافة إلى روايته "العصفورية" التي دلت على نضجه ونبوغه وحضوره الثقافي وسعة معلوماته. ثم افتح ما شئت من كتبه ودواوينه ومقابلاته ومحاضراته وستجد أنه في كل منها مختلف ومبرز. واليوم أتذكر وأنا طالب في المرحلة المتوسطة –أي قبل أكثر من خمسة عقود- حينما جاء إلى عنيزة محاضرا –قبل أن يُعرف- وكان لا يزال أستاذا بجامعة الملك سعود ولكن حضوره في تلك المحاضرة كان مشهودا؛ لذلك بقي القصيبي وأظنه سيبقى حيا بيننا، لأن ما قدّمه مختلف عما قدمه غيره. هو متعدد وكان مفردا، هو –أيضا- واحد ولكننا كنا وسنظل نراه مجموعة أشخاص".

  ذاع صيته في المجال الثقافي السعودي والعربي وتعدّت حكمه مجاله المحليّ لتحلّق في فضاءات وسيعة ومناخات بديعة وهذا دليل على أنّه لمّا كتب، فقد كتب هموم الإنسان العربيّ

علي الشبعان

العلامة والأثر

بدوره، يشير أستاذ تحليل الخطاب المشارك، بجامعة القيروان، الدكتور علي الشبعان إلى أن "شخصية القصيبي ستظل في دوائر العلامة والأثر" مستعيدا ذاكرته التي تعرفت إليه للمرة الأولى قائلا: "لقد كان أوّل عهدي بهذا العَلم، مذ وطئت قدماي، أرض المملكة، أستاذا مشاركا، في جامعة الإمام عبد الرحمن بن فيصل، أسمع عن مكانته العلميّة والفكريّة والسياسية، فهو شخصيّة تعدّدت مواهبها، وتشعّبت أفنانها، حتّى اشتهر بهذا التعدّد الإبداعي.

بعد عهد قصير، من إقامتي في المملكة الحبيبة، أهدى إليَّ، صديقي الدكتور عبد العزيز آل سليمان، طريق الوصول إلى أفكاره، من خلال ما ألف قلمه من فكر حصيف لامس جوانب الحياة كلّها: إذ له في الاقتصاد رأيٌ، وفي الاجتماع موقفٌ، وفي شواغل اليوميّ رؤيةٌ. وتشهد على ذلك خزانة ما أبقى من أجود التآليف، ومختلف التصاريف... وممّا يلفت النظر أنّ جلّ ما بثّه الوزير الأديب غازي القصيبيّ من أفكار في محبّراته كاد يرتقي إلى مصاف جوامع الكلم التي تغدو فيها العلامات اللّغويّة، أثرا واشما، ورمزا واسما، لذلك ذاع صيته في المجال الثقافي السعودي والعربي وتعدّت حكمه مجاله المحليّ لتحلّق في فضاءات وسيعة ومناخات بديعة... وهذا دليل على أنّه لمّا كتب، فقد كتب هموم الإنسان العربيّ يستشرف غده المشرق ومستقبله البديع.إنّ بقاء الدكتور غازي القصيبيّ في وجدان بني جلدته، دليلٌ على أنّه أقام بفكره داخل فضاءات الاختلاف، لذلك جرّب وهو يكتب أنواع القول جلّها وكأنّه يريد أن يوصل أفكاره من خلال مناحيَ مختلفة وبواسطة طرائقَ متغايرة.لقد عاش القصيبيّ مفكّرا حرّا شغلته هموم واقعه المحلي فقدّم خرائط الخروج من الأزمات نلمس اليوم ثمارها في حاضر المملكة. لقد كان من ضمن الرجال القادة الذين جهزوا أسباب نهوض المملكة في هذا القرن الذي لا مكان فيه إلاّ لأصحاب الإرادة القويّة والعزائم المتوثّبة.فغدا أيقونة عصره يتمثّل به الناس باعتباره رمزا لرجل الدولة الصدوق الذي أعطى وطنه دون حساب".

غازي القصيبي المدير التنفيذي لسابك يترأس حفل توقيع العقد في سابك بالرياض.

 

يجيب أستاذ النقد والنظرية في كلية الآداب بجامعة الملك سعود الدكتور معجب العدواني، في ورقته "مثلث النجاح" التي خصّ بها "المجلة"، عن أسباب بقاء القصيبي كظاهرة ثقافية، فيقول: "في التجارب الإنسانية على امتداد التاريخ تتجلى ثلاث علامات بوصفها شموسا ساطعة، تشكل مثلث الإشراق المعرفي، وتكشف عن قيمة التجربة وأهميتها وأثرها، وتتمثل في: الإتقان والإخلاص وكثرة المناوئين والخصوم، وتلك لعمري أهم المداخل للتعريف بالتجربة الإنسانية العميقة المثمرة لدى غازي القصيبي، إذ كان أحد أبرز الكتاب والفاعلين ثقافيا وإداريا في المشهد السعودي، ولنفترض أن حياته بما تضمّه من عمله وإبداعه وكتاباته الإدارية كناية عن ثلاثة فصول رئيسة، أولها الإتقان، وثانيها الإخلاص، وثالثها تكالب الأعداء وحسد المناوئين.

إنها تجربته المتمثّلة في الإيمان بأن المخلصين لن يضلوا طريقهم، وبأن الأعمال الناجحة المستندة إلى الإخلاص ذوات ناطقة لها أرواح وألسنة، تحبّ وتحبب الناس إلى أهلها

معجب العدواني

في الفصل الأول سنلحظ أن الإتقان هو العملة الرئيسة التي تتسم بها تجربة القصيبي الإبداعية والإدارية، لذا كان محط عناية المتابعين وإعجابهم، فإن كتب الشعر كان أكثر الشعراء رصانة، وإن كتب الرواية كان أكثرهم خبرة وإبانة، وإن تولى الإدارة كان أكثرهم دعما للناس وإعانة.

 

أما الفصل الثاني فهو فصل الإخلاص العظيم لكل منجز يقوم به، فهو مؤمن بأن وراء كل إنجاز كبير يكمن إخلاص عظيم، ويرى أن الشيء الوحيد الذي يستحق الخجل أن يكون الشخص غير مخلص لما ينجز، إنها تجربته المتمثلة في الإيمان بأن المخلصين لن يضلوا طريقهم، وبأن الأعمال الناجحة المستندة إلى الإخلاص ذوات ناطقة لها أرواح وألسنة، تحب وتحبب الناس إلى أهلها، وتنطق عن جودة ما فيها.

وفي فصل المناوئين والخصوم، وربما الأعداء، حارب القصيبي بالعمل والعلم، ودافع بالمعرفة، أعانته على ذلك ثقافته الواسعة من جانب، وجهل خصومه وارتهانهم إلى الصوت الأحاديّ، وكان كتابه الشهير 'حتى لا تكون فتنة' واحدا من أهم الكتب التي اختطت طريقا مختلفا للدفاع، متبنيا ذلك المبدأ القائل بأن الإنسان الذي يجيد معرفة مفاصل ضعفه، تكون لديه القدرة الحقيقية في تحويلها إلى منطلقات قوته.

AFP
وزير العمل السعودي الراحل غازي القصيبي (إلى اليسار) وهو يقوم بدور نادل في مطعم Foodruckers للوجبات السريعة في ميناء جدة على البحر الأحمر في محاولة لتشجيع الشباب السعودي على تولي وظائف بسيطة.

ويعبر القصيبي في كتابه 'حياة في الإدارة' عن تلك الأضلاع الثلاثة ببساطة عرفها القراء منه، بما يختلف به عن غيره "إن رغبتي في إتقان ما أقوم به من عمل لم تعن قط، رغبتي في التفوق على أي إنسان آخر. وكنت، ولا أزال، أرى أن هذا العمل يتسع لكل الناجحين بالغا ما بلغ عددهم. كنت، ولا أزال، أرى أن أي نجاح لا يتحقق إلا بفشل الآخرين هو، في حقيقته، هزيمة ترتدي ثياب النصر".

القصيبي ظاهرة ثقافية حقيقية، فهو إنسان كبير النفس عميق الكلمة، يرتدي عباءة الإنسان العادي الذي يضحك ويبكي ويحزن ويفرح ويخطئ ويصيب، وهذا كله يجعله قريبا من كل فئات القرّاء والمتلقين

رانية العرضاوي

أستاذة النقد والأدب المشارك الدكتورة رانية العرضاوي تقول إنها ستستغرب كثيرا "إن لم يتمتع القصيبي بهذا الحضور يوما من الأيام"، مضيفة: "أعتقد أنّ ما تركه غازي القصيبي هو إرث أدبي من الخوالد، هو ذلك الأدب الذي يُقرأ في أزمنة مختلفة وعبر أجيال متنوعة دون أن يكون غريبا أو بعيدا، فأنت لا تتعامل في كتاباته مع نصوص حيثية أو حِينية، تموت مع التقادم، بل تتعامل مع نصوص تحكي عن الإنسان ومسائل الحياة المختلفة، هنالك شيء حقيقي في كلمات غازي، لا تكلُّف فيه ولا ادّعاء، إنه الروح الإنسانية التي تضجّ في كتاباته الشعرية أو النثرية. فالقصيبي هو مثال المثقّف الذي ينشر الضوء في روح النص، هو يحرّك الكلمات ويرصفها لتنطق بما في نفس القارئ حيال موقف ما أو تجربة حياتية خاضها. إنه يلاعب المعاني عبر توظيف خياله الخصب، فيسرّب الى القارئ أفكاره وآراءه ورؤاه العظيمة من خلال حكاية طريفة، أو مشهد شعري أليم، أو لقطة في رواية من رواياته. بل إنك في كتاباته ولقاءاته المباشرة تجد نفسك أمام ظاهرة ثقافية حقيقية، فهو إنسان كبير النفس عميق الكلمة، يرتدي عباءة الإنسان العادي الذي يضحك ويبكي ويحزن ويفرح ويخطئ ويصيب، وهذا كله يجعله قريبا من كل فئات القرّاء والمتلقين، ولا يسجن نتاجه المعرفي والأدبي في برج عاجي بعيدا من واقع القارئ وأحلامه وآلامه وآماله. بالإضافة إلى التجربة الإنسانية العالية التي يتمتّع بها منتَج القصيبي الأدبي، لا ننسى تلك اللغة التي يكتب بها، فهو يتكئ على السهل الممتنع لغويا، من حيث البُعد عن التعقيد والتأزّم المعجمي، مع بقاء مرونة البناء وسلامته وفصاحته. إنّ لغته تشبه الماء، تشربه على ظمأ فترتوي، وتعيد شربه مرات ومرات دون أن تملّ أو تكتفي. أيضا، ما بثّه غازي في أدبه من بناء للوعي والمعرفة والثقافة هو أمر لا يغيب عن عين قارئه، أذكر كيف أنّ رواية 'شقة الحرية' مثلا أحدثت أسئلة كبرى لدى المثقف العربي وجعلته يواجه نفسه وهُويّته وعالمه الداخلي والخارجي، وهذا النوع من الأدب يحدث وعيا عميقا لكثرة ما يشاكل ويسائل. ولا ينسى قارئ القصيبي أنه أمام أيقونة أدبية ثقافية وطنية عالية، فكل ما فيه وفي كتاباته وشعره كان ينادي بالوطن ولأجل الوطن، حتى في تفاصيل الحكايات الفائقة الخيال. مَن مثل غازي لا يمكن أن يغيب، لا يمكن إلا أن يكون حاضرا أبدا".

font change

مقالات ذات صلة