تقدّم السعودية نفسها منذ مطلع الألف الثالث في حلة قشيبة، تختلف عن تلك الصورة النمطية التي صدَّرها المتطرفون الذين لم يعجبهم ما وصلت إليه المملكة من نهضة علمية وثقافية وتنموية، جعلتها ترنو إلى المستقبل بخطى واعدة وثَّابة.
لم يكن هذا التغيير عفويّا، بل كان بصورة هادئة ومدروسة ومنظمة، فلقد بدأت إرهاصات تلك الخطط الخمسية في عهد الراحل فيصل بن عبد العزيز آل سعود عام 1970، وعلى الرغم من تحفظات كثير من الاقتصاديين –حينها- إلَّا أن نجاحها فاق كلّ توقّع،والأمر ملموس وجليّ ومسجّل في المجلات الاقتصادية العالمية، الأمر الذي يطيل الأعناق، ويملأ الصدور بأوكسجين الفخر.
وإذا ما انطلقنا بالزمن إلى عامنا الراهن، 2023، فستطالعنا رؤية 2030 التي وضعتها قيادة شابة طموحة درست مخرجات السياسة العالمية واقتصاداتها، وأدركت أن المملكة تحتاج بصورة قصوى إلى تغيير الصورة النمطية القديمة عن السعودية كحضارة وشعب ومجتمع. فعمدت إلى إطلاق الطاقات الوطنية، وصبّت عزيمتها على هيئة رؤية مستدامة تندرج ضمن نمط ثقافي توعويّ يتماهى مع أطلس العالم الجديد، فتمكّن الشعب السعودي بثقافته ووعيه وتعاضده- مصحوبا بطموح قيادته- من استبدال الصورة الكلاسيكية إلى صورة ناطقة بالحداثة، ناضحة بالعمران، متجلية بالحضارة.
حولت القيادة الموروث الثقافي إلى طاقة دافعة وقافزة نحو الحلم السعودي المتمثل في رؤية متكاملة الأركان، تستهدف تحقيق المصلحة العليا السعودية، وتضع المملكة في مصاف الدول الحديثة، الآخذة بالزمام النهضوي المنفتح على عالم مليء بالتحديات والتقلّبات والفرص والاحتمالات.
لقد آلت القيادة على نفسها تقديم المجتمع السعودي بصورة تنطق بالتميز، والخصوصية. صورة تجسد التفرد، وتنبذ الماضوية التي تعني: الانتساب إلى منهج منبتّ الصلة بالحاضر، وتمثل انتكاسا حضاريّا، وردَّة إلى المجهول.
تطلب الأمر جهدا دؤوبا لتقديم الموروث الثقافي القديم، مدعوما بما نالته المملكة من تحديثات وتحديّات. وعندما أطلقت المملكة ممثلة في مثقفيها ومفكريها، في كل فنٍّ، مبادرات عدة مضفَّرة بمهرجانات ثقافية نوعية بمناطق زاخرة بالإرث الحضاري والتاريخي البصري مثل العلا والدرعية، فإنما هدفت منها إلى تشجيع الحوار بين جميع الحضارات والثقافات على أسس الاحترام والتفاهم المتبادل.حيث دعت المملكة من خلال هذه المهرجانات والمبادرات إلى امتزاج الحضارات وتلاقحها، لا إلى الصدام والتنافر. ولم يقتصر الأمر على دورة واحدة، بل أصبح هذا العرس الثقافي ممتدّا، وله تاريخ محدد يُعقد فيه. ولا تقتصر الفعاليات على الترويج السياحي للمدن والمناطق التي تزخر بالمباني التراثية، أو العادات البدوية فحسب، بل تعدَّى الأمر إلى تقديم الموروث الحضاري، المتخم بالعادات والتقاليد التي يتيه بها السعوديون فخرا، وبيان الفن المعماري المميز لكل منطقة بدوية أو حضرية... وكذا تقديم الأطعمة، وما يتميز به المطبخ السعودي.
عندما أطلقت المملكة ممثلة في مثقفيها ومفكريها، مبادرات مضفَّرة بمهرجانات ثقافية نوعية بمناطق زاخرة بالإرث الحضاري والتاريخي البصري، هدفت منها إلى تشجيع الحوار بين جميع الحضارات
ينبغي لنا أن نرجع إلى المفهوم العالمي للثقافة الذي عرَّفها به إدوارد تايلور (1832- 1917) الأنثروبولوجي البريطاني الشهير، الذي يُعَدّ أول من وضع تعريفا إناسيّا للثقافة، فقال: "إن الثقافة أو الحضارة بمعناها الإناسي الأوسع: هي ذلك الكل المركب الذي يشمل المعرفة والمعتقدات والفن والأخلاق والقانون والأعراف والقدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان باعتباره عضوا في المجتمع"، ومن المؤكد أننا إذا ما بحثنا لهذا المصطلح عن رؤية تفكيكية تختلف عن المعنى الحرفي لكلمة "ثقافة" فطبقا لجاك دريدا، فإن التفكيك مصطلح مقصود به أسلوب فهم العلاقة بين النص والمعنى. ولو طبقنا ما سلف على رؤية المملكة 2030، فسنجد أن القيادة لم تقف عند حدود الثقافة الضيقة، بل تعدَّتْها إلى رؤية شمولية تراعي تقديم المواطن السعودي الجديد الذي يرنو إلى المستقبل بعينين ملؤهما الأمل والطموح، فيلامس بأنامله عنان السماء.
وفي خبر سابقٍ مبهجٍ -لطالما ظلّ مرجوا ومنتظرا- تناقلته العديد من وسائل الإعلام نصّ على تمكين جيل من المحترفين من خلال تبني "معاملالبحر الأحمر" التابعة لـ"مؤسسة مهرجان البحر الأحمر السينمائي"، شراكة مع سوق الأفلام بـ"مهرجان كان" السينمائي الفرنسي، للمشاركة في إطلاق الدورة الافتتاحية لبرنامج "صنّاع كان"، الأمر الذي مثَّل في رأيي محوا وإلغاء للفكرة التشددية القديمة القائمة على تجريم وتحريم رفضي لكل شيء... إلى رؤية تجديدية تغرس في أعماق المواهب الجديدة روح التحدّي، وتنمّي فيهم الإبداع، وترتقي بأفكارهم، وتتيح لعقولهم ما يولجهم إلى عالم ملؤه الخيال والابتكار. وليس مفروضا أن يتعلق الأمر بفعل الحرام، أو نقض الثوابت، بل الأمر متعلق بتنمية الرؤى، وشحذ الفكر، وتنشيط المشهد الثقافي المحلي وحفْز الهمم.
ما من شك في أن فلسفة الأمر برمته قامت على استراتيجيا مهمة اختصرها الخبر المُتناقل نفسه: "مواصلة دعم جيل من رواة القصص، وتدريب المواهب السعودية في قطاع الفن السابع، ومدّ الجسور للعلاقة المتينة بينهما، وبين مجتمع الخبراء والكفاءات النوعية حول العالم"، الأمر الذي –بكل تأكيد- سيغير الصورة العامة، ويضع مفهوما جديدا للمجتمع السعودي الحريص على المزج بين الأصالة والمعاصرة، وقَوْلبة الأمر في خطوات عملية مدروسة، تكون مخرجاتها فنّا سعوديّا سينمائيّا مراعيا لعاداته، حريصا على تقاليد عمرها مئات السنين.
ممّا سلف، يتضح حرص القيادة في بلدنا على تصدير الثقافة السعودية برافديها التراثي والمعاصر، واستيراد كل ما يفيد المجتمع، والعمل على نمذجته وطبعه في نسخة حديثة أوراقها تحكي حكاية مكانية امتدَّ تاريخها إلى ما ينيف على ألف وخمسمئة عام.
مع هذا كله، إلَّا أن الصورة الطموحة لم تكتمل بعد، فسوق الثقافة السعودية ظل لسنوات ماضية مفتقدا التنمية، ومفتقرا للاستثمار. وما من شك في أن الثقافة في حدّ ذاتها كمنتج يحسب ضمن الدخل القومي للدولة، فإنه يجب على حكومتنا الرشيدة أن تضع نُصْب عينيها هذا الأمر –وكلي يقين في أنها بحق ضمن أولويَّاتها- صناعة الاستثمار الأمثل للثقافة السعودية بمفهومها الشامل الواسع الذي أبانه تايلور، فهل يتحمل المسؤولون عن الثقافة في بلادنا هذه التبعة؟
فبالنظر إلى ما حولنا في هذا العالم، سنجد أن هناك دولا كالولايات المتحدة الأميركية بنتْ مدنا كاملة للسينما – على سبيل المثل لا الحصر- ورأينا موازنات توضع للفيلم الواحد بما يتجاوز موازنات بعض الدول الصغيرة. ومملكتنا ليست فقيرة لتمتلك مدينة سينمائية بها أحدث الأجهزة لتصوير الأفلام والمسلسلات التي تضارع الإنتاج العالمي. ويمكننا هنا تناول التساؤل الكبير الذي طرحه صاحب السمو الملكي الأمير تركي الفيصل في مهرجان كانّ حين قال: "إذا كان هناك هوليوود، وإذا كان هناك بوليوود، فلماذا لا يكون هناك سوليوود؟" وهي أمنية طامحة احتضنها صدر سؤال عريض ومهم في وهج الحالة السعودية الاستثنائية الراهنة.
فلنستثمر في تصدير ثقافاتنا، ولندفع أبناء شعبنا الأصيل إلى تقديم بلاده المتسامحة النبيلة المسالمة المثقفة الفتيّة الأبيّة القويّة بقيَمها الراسخة
أما عن تصدير الكتاب داخليا وخارجيا، فحسنا فعلت وزارة الثقافة حين دشنت العديد من معارض الكتاب الجديدة إضافة إلى معرض الرياض الدولي للكتاب، كمعرض المدينة المنورة، والقصيم، والمنطقة الشرقية، ومعارض كتاب بمناطق أخرى في طريقها الى التنفيذ. وحبّذا لو طعّمتْ إدارات تلك المهرجانات فعاليات المعارض المقبلة بالعروض السينمائية للأفلام السعودية، وتكثيف المسرحيات الشعرية –المتلاشية بعالمنا العربي- والكوميدية. إضافة إلى مضاعفة المعارض التراثية –كما حدث في أحد أجنحة معرض الرياض الدولي للكتاب الفائت- وزيادة الليالي الموسيقية الأصيلة، وإدراج الحكايات الشعبية بأسلوبها الفني القديم والمعاصر، ليزداد زخم التفاعل بين مرتادي هذه المعارض التي تعدُّ متنفَّسا للمثقف السعودي، وللزائرين.
كلنا أمل في أن يُعاد التفكير في كيفية تقديم الثقافة السعودية خارجيّا، كأن تقوم جميع السفارات والقنصليات السعودية وملاحقها الثقافية ببرامج ومهرجانات على مدار العام تدور بها جميع المناطق المتاحة لها بالتنسيق مع الجهات ذات العلاقة والصلة، وكذلك المدارس السعودية بالخارج لجعلها ثقافة ميدانية استمرارية. ولنا أن نتصور حجم المدخول الاقتصادي الذي سوف يعود على الميزان التجاري للمملكة حين نستثمر في الثقافة بمعناها الشمولي، وتصبح صادراتها التثقيفية أكثر من وارداتها.
لا شك في أن كثيرا من الدول لجأت إلى نشر ثقافاتها وموروثاتها الشعبية والحضرية من خلال إنشاء معاهد مختصة بهذا الغرض، وليس أدلَّ على هذا من معهد "غوته" الألماني، والمركز الثقافي الروسي، والمركز الثقافي البريطاني وغيرها من المنتديات التعليمية والثقافية التي تشجع الشعوب بصورة طوعية على التعرف الى المزج الحضاري، والالتقاء الفكري، وتلاقح الثقافات.
من هذا المنطلق، ندعو إلى إنشاء مراكز ثقافية في الدول الأجنبية بجميع القارات: أوروبا، والأميركيتان، ودول آسيا، ودول أفريقيا؛ لنشر الثقافة السعودية، ولتغيير الصورة النمطية عن المواطن السعودي، واستمرارية غرس قيم النبل الإنساني والتسامح والسلام والمحبة بين شعوب العالم.
فما من شك في كون الثقافة هي رسول من رسل الالتقاء بين الشعوب، وهي النبي الصامت المستمر الذي يبشر بالمحبة والوئام والسلام بين ربوع المعمورة. فلا توجد حضارة تحمل جنسية معينة، أو إثنية، بل إن الحضارة بمفهومها الشامل الواسع تدعو إلى إرساء الخير والنور والتسامح والعدل، تلك التي يصنعها البشر، وتنبذ مفهوم صراع الحضارت، وتؤصّل لمفهوم دائم هو تزاوج الحضارات وانفتاحها.
من هنا ينبغي للشعوب العربية بصفة عامة، والشعب السعودي بصفة خاصة، أن يؤصل لعصر "التصدير الثقافي" نتيجة ما نمتلكه من تراث حضاريّ متمثل في الدين واللغة المشتركة والأخلاق، فإن لدينا ما نقدمه الى العالم، فلنستثمر في تصدير ثقافاتنا، ولندفع أبناء شعبنا الأصيل إلى تقديم بلاده المتسامحة النبيلة المسالمة المثقفة الفتيّة الأبيّة القويّة بقيمها الراسخة البعيدة عن الإثنية، والتفرقة العنصرية، المؤمنة بالتلاقح الثقافي في عصرها العامر بكلّ المنجزات.