- سمعتك في ندوة تتحدث عن أهمية لغة نجيب محفوظ الروائية في الوقت الذي نجد تصريحات لروائيين آخرين تدعو إلى تجاوز سرد محفوظ التقليدي؟
الحديث عن أهميّة لغة نجيب محفوظ لا يعني أنّه لا ينبغي تجاوزها. أهميّة محفوظ في ما يخصّ اللغة تتمثل في أنه استطاع أن يؤسّس لغة للرواية قادرة على أن تسمّي الواقع بكل تفاصيله بدقّة. اللغة العربيّة التي كانت سائدة عندما بدأ محفوظ يكتب كانت لغة المنفلوطي والرافعي والمازني. لم تكن قد خرجت بعد من المناخات الرومانسيّة والدينيّة. كانت لغـــة فضفاضة. كان لا بدّ من تسمية كل مظاهر الحياة اليوميّة الحديثـة في المقهى والحانة والسيّارة والفندق والقطار والحافلة والجامعة وهي كلّها أمور جديدة لم يكن لها حضور كبير في ما كان يكتب قبله. نجيب محفوظ كان واعيا بهذا. في كتاب "رحلة عمر مع نجيب محفوظ"، ينقل مؤلفه يوسف الشاروني جزءا من حوار مع محفوظ يشيـــر فيه بوضــــــوح إلى هذه المسألة التي يعتبرها مهمّة في الرواية. يقول في هذا الحوار "المشكلة هي كيف تطــــوّع اللغة العربية المجرّدة المقدسة لتعبر عن الحياة اليومية". محفوظ فهم مبكرا ما لم يفهمه إلى حدّ الآن الكثير من الروائيّين العـــرب وهي أنّ لغة الرواية يجـــب أن تكون دقيقة جدا. فنّ الرواية هو فنّ التسمية بامتياز في حين أن الشعر هو فنّ الإيحاء.
روائيون أساؤوا إلى الرواية
- في رواياتك تعتمد لغة مكثفة في إيقاع سردي وسلس يبتعــد عن التشبيهات والمجازات البلاغية، أو ما يسمى الانزياحات الشعرية. كيف تعمل على لغتك الخاصة هذه؟
هناك تشبيهات ومجازات بلاغيّة في لغتي. لكني حريص جدّا على أن تكـون حيث يجب أن تكون وعندما يستدعي السياق ذلك. أهتمّ كثيرا باللغة في الرواية، خلافا لما قد يخطر ببال البعض. أحذف كلّ ما لا يخدم النصّ. وأتجنّب السقــوط في فخّ الانشائيّة. هذه السلاسة وهذا التكثيف هما نتيجة عمل طويل. اللغة العربيّة
لغة خطرة بالنسبة إلى الروائي لأنّ لديها تراثا شعريّا ضخما. إن استسلمنا لــها ولم نحسن استعمالها تفلت منا وتحملنا إلى ما لا نودّ الذهاب إليه. هناك أمـــر آخر أعمل عليه وهو أن تكون الكلمات دقيقة وفي مكانها. أتذكر دائما جملة لفلوبير المعروف بدقته وهي "أفضّل أن أموت ككلب على أن أنهي جملة غير ناضجة".
النقد العربي همّش مفهوم الدقة في العمل الروائي. لذلك يبدو الواقع أحيانا ونحن نقرأ بعض الروايات غائما فضفاضا وكأنّ الكاتب ينظـــــــر إليه من خلال ستارة. الإكثار من التشبيهات والمجازات البلاغيّة في الرواية لا يخدمها برأيي خلافا لما يعتقد الكثير من الروائيّين العرب الذين أدخلوا ما يسمّى بالشعــــــر إلى الرواية، فأساؤوا دون أن يشعروا إلى لغة الرواية، وبالتالي إلى الرواية. لكنّ حرصي على الدقة لا يعني أنّي لا أولي الجماليّة ما تستحقّ. هناك معادلة بين الدقة والجماليّة. أعرف أنها معادلة صعبة. لكن من قال إن الكتابة سهلة؟
تحضر البيئة التونسية في مجمل رواياتك، حتى تلك الروايات التي تتداخل فيها أمكنة أخرى، كروايتَي "روائح ماري كلير" و"الاشتياق إلى الجارة"؛ هل يظل مكان العيش الأوّل للكاتب مرافقا له إلى الأبد؟
البيئة التونسيّـة وخاصة قرية العلا حاضرة بقوّة في معظـم أعمالي. لقد أمضيت السبعة عشر عاما الأولى من حياتي أي كل طفولتي وجزءا كبيـــرا من مراهقتي في فضاءات هذه القرية. هذه المرحلة من حيـاة الانسان أساسيّة في تشكيل ذاكرته ومخيّلته وتحديد وعيه بالعالم. هناك أمكنة أخرى لها حضور بارز في أعمالي الروائيّة مثل مدينة تونس التي أقمت فيها أربعـة عشر عاما، وباريس التي أقيم فيها منذ نحو أربعين سنة. هذه الأمكنة هي التي تشكّـــــــل فضاءات كل رواياتي. إنها تتعايش وتتقاطــع وتتواشج. لا أحد منها استطاع أن يهمّش الآخر أو يقصيه من عالمي الروائي.
- في المستوى نفسه نجد المرأة/ الجسد هي مفتاح معظم رواياتك: "نساء البساتين"، "روائح ماري كلير"، "البكارة"، "الاشتياق إلى الجارة" وغيرها؛ هل لهذا المنحى علاقة بما يمكن أن نسميه بفتنة القص من خلال الاعتماد على حكايات حب؟
للحبّ والجنس والعلاقات العاطفيّة والحميميّة عموما بين الرجل والمرأة أهميّة كبرى لدى معظم البشر وفي كل المجتمعات. أيّ قيمة للحياة بل هل هناك حيـــاة أصلا عندما لا يكون هناك حب؟ حضور المرأة / الجسد في رواياتي ليس مقحما إقحاما ولغاية الإثارة أو لاجتذاب القارئ إنما يأتي ضمن تلافيف الحياة. بالإضافة إلى ذلك، أعتقد أنّ المرأة أعمق وأثرى من الرجل، ليس في مجتمعاتنا العربيّة التي لا تزال ترزح تحت ثقل التقاليـــــد فحسب، وإنما في المجتمعات الغربية أيضا. المرأة تختزل قيم المجتمع وتصوّراته كما أنّ جسدها يعكـس استيهامات الفرد ونوازعه. إن أردت أن تفهم مجتمعا فهما حقيقيّا، فانظر إلى وضعية المرأة في هذا المجتمع وإلى الطريقة التي يتعامل معها الذكر فيه. ليست مصادفة أنّ المرأة في كل المجتمعات المتطوّرة والحديثة تتمتع بالحريّة إلى حدّ كبير.
العربي ليس أكثر فحولة
- في روايتي "روائح ماري كلير" و"الاشتياق إلى الجارة" نستعيد ما كرّس في الرواية العربية عن العلاقة بين المشرق والمغرب، إلاّ أن الشخصيات الرئيسة في الروايتين لم تتشابه مع ما سبقها من شخصيات وجدناها لدى توفيق الحكيم والطيب صالح وربما سهيل إدريس. كيف ترى هذه العلاقة؟
من الطبيعي أن لا يوجد في هذا المجــال تشابـه بين الشخصيـات في رواياتي والشخصيات التي نجدها في روايات توفيق الحكيم وسهيــل إدريس والطيب صالح وفي الروايات الأخرى التي تناولت هذا الموضوع وهي كثيرة. كلّ كاتب له موقف من هذه العلاقة. وهذا الموقف ناتج من أمور عدة منها ثقافته العربيّة واطلاعه على ثقافة الغرب وتجربته الشخصيّة في البلدان الغربيّة. أنا من جيل لم يعان من الاستعمار كما حدث لهؤلاء الكتاب، واكتشف الغرب في فترة خـــفّ فيها الصراع بين الغرب والشرق ظاهريّا على الأقلّ. هذا الاختلاف يظهـر بوضوح في روايتي "روائح ماري كلير" التي تقوم على قصّـة حبّ تربط تونسيّا بفرنسيّة.
معظم النقاد الذين كتبوا عن هذه الرواية لاحظوا ما ذهبت إليه. محفوظ وهو الشخصيّة الرئيسة في الرواية يبدو هشّـــا متردّدا غير واثق من نفسه أمام حبيبته ماري كلير، خاصّة في كلّ ما يتعلّـق بالجنس. إنه نقيض مصطفى سعيد الذي جعل منه الطيب صالح فحلا تتهافت عليه النساء. أتفهّم أن تكـــــون شخصيّة مصطـفى سعيد على هذه الشاكلـــة. والطيّب صالــــح كان واعيا تماما بذلك. مصطفى هو الرجـــل الأفريقي العربي الذي عانى كثيرا من الاستعـــمار ومن سيطرة الغرب على بلده ويريد أن ينتقم. والانتقام من قبل عربي لا حول ولا قوّة له، لا يكــون إلا من خلال سيطرتــــه على إناث الغرب بفحولته. إنه فانتازم لأنّ العربي ليس في رأيي أكثر فحولة من الغربي بل قد يكون أقلّ فحولة منه لأنّ تجربته في مجال الجنس كما لدى شخصيّة محفوظ محدودة بحكم التقاليد الثقيلة.