تقرير "ألفاريز ومارسال"... موسم التهريج الهابط

تقرير "ألفاريز ومارسال"... موسم التهريج الهابط

أضيف تقرير التدقيق الجنائي المالي الذي قدمته شركة "ألفاريز ومارسال" للسلطات اللبنانية إلى فيض من الأحكام والدعاوى القضائية والتقارير الدولية من هيئات رسمية وحقوقية وإلى عدد لا يحصى من الأوراق البحثية الأكاديمية والمقالات الصحافية التي تذهب كلها مذهبا واحدا؛ أن لبنان يحكمه تشكيل عصابي ("عصابة أشرار" كما ورد في واحد من التقارير الدولية).

أُعدّ التقرير بناء على طلب من الحكومة اللبنانية استجابة لطلب من صندوق النقد الدولي من أجل تشكيل رأس جسر إلى القارة المجهولة المسماة "المالية العامة" اللبنانية التي تتجاور فيها الأدغال ووحوشها والصحارى وغموضها، ناهيك عن مستنقعات وتماسيح وضوار وأفاع من كل الأصناف والأحجام.

وليس من الإجحاف في شيء القول إن مضمون التقرير الذي امتنع وزير المالية المحسوب على الحاكم السابق لمصرف لبنان المركزي وحليفاه رئيس المجلس النيابي ورئيس حكومة تصريف الأعمال، طويلا عن تسليمه الى النواب والقضاء، لم يفاجئ أحدا: لوائح المستفيدين من الأموال التي حولها "الحاكم" إلى منظمي المهرجانات الفنية... "الإعلاميون" الذين وصلوا إلى رتبة "الأستاذية" في غفلة من الزمن ويحتلون اليوم الشاشات للدفاع عن كل أنواع سرقة المال العام والخاص ما داموا يتلقون مخصصاتهم من أولياء نعمتهم الفاسدين... الهندسات المالية المشبوهة التي لم يرفع فيها أي مسؤول رسمي إصبعا للاعتراض عليها أو حتى طلب المزيد من دراستها... تحويل الأموال إلى حسابات أفراد العائلة والمقربين... غياب الاجتماعات التي كان يفترض أن تشهد نقاشات حول السياسات النقدية للمصرف وعلاقته بالمصارف التجارية وبالحكومة اللبنانية وطلباتها التي لا تنتهي للحصول على تمويل مشاريع وهمية أو عديمة الفائدة... التعامل مع شركات متخصصة في غسيل الأموال والالتفاف على العقوبات الدولية على أفراد وأحزاب بعينها... وغير ذلك الكثير، موجود منذ أكثر من عقدين على صفحات الصحف ومواقع الإنترنت ومنصات "السوشيال ميديا".

ويفسر هذا، جزئيا، مرور تقرير "ألفاريز ومارسال" المؤلف من 332 صفحة، من دون أن تزلزل الأرض وينتصب الميزان. وإضافة إلى أن التقرير أولي، كما أصر أصحابه على وصفه وغابت عنه الكثير من المعطيات التي امتنع مصرف لبنان المركزي عن تأمينها للشركة بعذر أو من دونه، فإنه يساهم في تشكيل مشهد التهريج الهابط الذي يعيشه لبنان منذ سنوات.

وعندما تعجز السلطات القضائية عن تبليغ الحاكم السابق للمصرف المركزي بمواعيد جلسات التحقيق بذريعة عدم معرفة مكان إقامته، فإن ذلك لا يشي بهزال الجهاز القضائي فحسب بل يعلن أيضا ومن دون مواربة أن الحاكم السابق أقوى من القضاء الخاضع للتشكيل العصابي المستولي على السلطة والذي عمل حاكم المصرف المركزي طويلا كمحاسب له ومنظم لصفقاته ومدير لجرائمه وأعماله اللصوصية.

عندما تعجز السلطات القضائية عن تبليغ الحاكم السابق للمصرف المركزي بمواعيد جلسات التحقيق بذريعة عدم معرفة مكان إقامته، فإن ذلك لا يشي بهزال الجهاز القضائي فحسب بل يعلن أيضا أن الحاكم السابق أقوى من القضاء 

المهزلة/ المأساة أن التقرير سيقف إلى جانب منع التحقيق في تفجير مرفأ بيروت في 2020 بل مطاردة قاضي التحقيق المكلف واتهامه بالعمالة والخيانة، وإلى جانب مخالفة كل القوانين المتعلقة بودائع مئات الآلاف من اللبنانيين الذين تبخرت أموالهم من دون أمل في استعادتها وسط إصرار على تبرئة المتسببين في هذه الكارثة الاقتصادية- الاجتماعية، وإلى جانب التمسك بنظام سياسي يقوم على التقاسم المافيوي– الطائفي لمناصب الدولة وما تجلبه من غنائم وأنفال. 

يطفو فوق ذلك، مناخ مصطنع عن انتعاش الحركة السياحية والأموال التي ينفقها المغتربون اللبنانيون العائدون في إجازاتهم الصيفية في المطاعم والمسابح، وإغفال أوضاع مرضى الحالات المزمنة الذين فقدوا الأمل في الحصول على فتات من علاج بعد انهيار المؤسسات الضامنة وإحالة كل أسباب الأزمة إلى اللاجئين السوريين والفلسطينيين وتحميلهم أوزارها، في فصل آخر من التهريج. 

هناك مناخ مصطنع عن انتعاش الحركة السياحية والأموال التي ينفقها المغتربون اللبنانيون العائدون في إجازاتهم الصيفية في المطاعم والمسابح، وإغفال أوضاع مرضى الحالات المزمنة الذين فقدوا الأمل في الحصول على فتات من علاج بعد انهيار المؤسسات الضامنة

وليس صحيحا ولا دقيقا حصر المسؤولية عن النكبة الحالية في "حزب الله" وسلاحه. أدى الحزب، من دون ريب، دور الحامي للجماعة الحاكمة وحال دون حصول أي تغيير سواء في ذروة مظاهرات "ثورة تشرين" 2019 أو بإعاقته انتخاب رئيس للجمهورية لا يكون من مواليه وتابعيه (من دون إحسان). بيد أن ذلك يشكل جزءا واحدا من أجزاء اللوحة كالحة السواد التي تضم اصطفافا جماهيريا يزداد قوة وراء القيادات التي أوصلت البلاد إلى الكارثة بالسيطرة الكاملة على الإعلام والقضاء والأمن والجيش وكل مؤسسة يفترض أن تساهم في حماية المجال العام والحياة اليومية للمواطنين فيه. يحرك الحزب المسلح الدمى ويلوح بقطع الرؤوس وتفجير الحروب، ويخلق مناخ استمرار الكارثة وتفاقمها وتكالب المستفيدين منها على جثث ضحاياها.  

وإذا وضع تقرير "ألفاريز ومارسال" على طاولة التشريح ونُظر إليه بعدسة علم الاجتماع السياسي، لظهر أن كل من اقترب ولو خطوة من السلطة اللبنانية، حاول الاستفادة من فسادها وتغذية مصالحه الخاصة على حساب المال العام. وهذا ما لا يقتصر على فئة أو حزب وما لا يُستثنى منه طرف أو تيار. 
وما رفض القوى السياسية الكبيرة التي أعيد انتخابها بأكثرية ساحقة في 2022 للسير ولو خطوة واحدة في مسار الإصلاح ومكافحة الفساد وحماية مؤسسات الدولة، سوى مظهر آخر للائتلاف العريض الذي يحكم لبنان بالسلاح والرشى والخوف والتهويل بالحرب الأهلية والاغتيالات متى دعت الحاجة. 
 

font change