يبدو أنّ اقتراح قوى الحرية والتغيير الذي طرحه طه عثمان إسحق، هو بداية لمناورة سياسية أخرى لن تؤدي إلا إلى مزيد من الاضطراب السياسي وسط الأزمة المستمرة التي تعصف بالبلاد، وتهدف إلى تحقيق أهدافٍ سياسية على حساب الحرب.
ويتضمن ذلك الاقتراح الدعوة لمنح "قادة" الطرفين المتحاربَين: الجيش، و"قوات الدعم السريع"، الإذن بالمشاركة في الأنشطة السياسية بعد أن تضع الحرب أوزارها، وإغفال الجرائم والتجاوزات التي حدثت بتبرير هذه الجرائم التي حصلت وتحصل باعتبار أنها مجرد عرَض من أعراض المرض المتمثل في الحرب المستمرة. إنّ حملة الترويج لذلك هي في واقع الأمر مسعى سياسي يهدف إلى حماية امتيازات الفساد الراسخة التي مارسها بعض الأفراد خلال المرحلة الانتقالية، والتي كان هدفها استبدال التمكين الآيديولوجي لحزب المؤتمر الوطني المخلوع بتمكين إقليمي.
علاوة على ذلك، يبدو أن هذه الحملة تجري بإرشادات تُمليها جهات أجنبية، تهدف في المقام الأول إلى الحفاظ على وجود سياسي لوكلائها، وتأمين ممارسة تأثيرهم على جهاز دولة السودان. ويجري ذلك من أجل حماية مصالح الدول الأجنبية في الحصول على مزيد من الأراضي والموانئ، وصفقات الذهب.
المنطق الكامن وراء هذه الحملة معيب في جوهره
1_ سُميت الانتهاكات التي وقعت على وجه التحديد بـ"جرائم الحرب". وقد جرى ذلك في سياق اعتبار هذه الأفعال جرائم جنائية تختلف عن الأعمال الحربية. فهذه جرائم وليست من طبيعة الحرب، وليست حتمية الوقوع بوقوع الحرب. وينطبق هذا الأمر على جميع أنحاء العالم، كما ينطبق على التجارب التي مر بها السودان، إذ انخرطت حركات صراع مسلحٍ مختلفة في مواجهات شرسة مع القوات المسلحة السودانية في الجنوب وفي الشرق وفي دارفور، وكردفان، والنيل الأزرق. وارتكبت القوات المسلحة السودانية الانتهاكات نفسها التي شهدناها منذ 15 أبريل/نيسان، كالقصف العشوائي، واعتقال واحتجاز المدنيين، وما إلى ذلك. لكننا لم نشهد تعرض هذه الحركات إلى المستشفيات، ونهب منازل المواطنين، وسرقة ونهب الممتلكات، واختطاف النساء واغتصابهن، أو القتل الجماعي على أساس الهوية. فقد وصلت حركة خليل إبراهيم إلى أم درمان واقتحمتها، ولكننا لم نسمع عن ارتكاب جنودها حالة اغتصاب واحدة، أو نهب سيارة مواطن واحد، أو سرقة ممتلكاته.
إنّ جرائم الحرب التي ترتكبها الميليشيات هي جرائم تعكس الطبيعة الفاشية للميليشيا وليست مجرد آثار جانبية من آثار الحرب. فالعدالة الانتقالية ليست مجرد كلمة تتكرر خاوية من أي مضمون، بل تشمل الاعتراف بالجرائم، وتحديد المسؤول عنها، والاعتذار عن ارتكابها بقصد التهرب من المساءلة الجنائية. لكن لا يجوز التهرب من المساءلة السياسية ومكافأة المغتصبين على جرائمهم، لأن ذلك يفتح الباب على مصراعيه أمام تكرار تلك الجرائم.