منذ أن اشتغلت في الصحافة، لم أعمل مع جهة من لوني، أعني طائفتي، أو اللون السياسي لطائفتي، رغم أن تاريخ بداية مزاولتي المهنة، تزامن مع بداية العصر الذهبي الإعلامي، لدى طائفتي الكريمة.
منذ ذلك التاريخ، وأنا أتنقّل من وسيلة إعلامية "معادية" إلى أخرى أكثر أو أقل عداء، بحسب الفرصة السانحة، "من دون رفّة جفن، أو وخزة ضمير"، كما قال لي أحدهم يوما، وقد خبرت خلال تنقّلي بين "الأعادي"، المعنى الحقيقي لمقولة "مهنة المتاعب"، في وصف الصحافة، ومع ذلك لم أتعب، كما لم يتعب الحرّاس أيضا- أعني حرّاس الطائفة، من عساكر وناس عاديين- من تأديبي.
لم يكن سهلا عليّ، العمل في الصحافة الميدانية، في بيئة مصابة بعمى الألوان، لا ترى سوى لونين فقط، أما الباقي فبيارق حربية. لذلك كان خروجي اليومي في طلب رزقي، وعودتي سالمة إلى البيت، منجزة عملي، ناجية من التهديدات والملاحقات، من قبيل المعجزات والتلطّف بالعباد!
أذكر أن ألطف عبارة سمعتها، للانتقاص من قيمة عملي، هي "الشغل مش عيب"، مصحوبة بضحكات هستيرية، وغمز ولمز، وحركات بذيئة بالأصابع والألسن أحيانا.
لقد صدّعوا رؤوسنا، بأنهم أصحاب تجربة فريدة في المقاومة والسياسة والعمل الاجتماعي والثقافة والصحافة، وهم يسلخون جلود من يخالفهم الرأي أو من ينتقدهم، ولا يتورعون عن قتلهم أيضا
ولا أنسى المشهد الدرامي الذي كان يتكرر معي، بشكل دوري، حين أكون غارقة حتى أذنيّ في العمل، فينبري أحدهم، بدافع الفضول، للاستفسار عن الجهة التي أعمل لحسابها، وأضطر أن أجيبه، عندها ينكشف سرّي وينفضح أمري، وأحسّ بقفص الاتهام يطبق عليّ، ويحاصرني الخطر، أما السائل، فيمتقع وجهه، وتتسع عيناه اندهاشا من وقاحتي، فينهرني، وأحيانا يطردني، وأحيانا أخرى يرميني بالحجارة، أو يحطّم سيارتي، أو يوجّه صوبي "سلاحه الفردي".
كنت في كل المواقع والظروف، عرضة بالدرجة الأولى للقتل، وثانية للسب والشتم والطرد، إلا إذا كنت برفقة زملاء لي، فيتولّون حمايتي وتغطيتي مشكورين.
على أن أكثر المراحل تعبا، في مهنتي، كي لا أقول خطرا، كانت تلك التي عملت فيها مراسلة لجريدة "المستقبل"، بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، يا إلهي، على كميات البصاق، التي تلقّيتها من أناس أعرفهم وأناس لا أعرفهم، أذكر أنني انحبست شهورا في المنزل، لا أجرؤ على الخروج، خوفا من "المتحمّسين" كما قال لي عنصر أمني، كنت خلالها، أتلقّى اتصالات من أشخاص أعرفهم وأشخاص لا أعرفهم، ينصحونني بتقديم طلب عمل، لدى مكاتب الخدمة المنزلية، فذلك أشرف لي.
وبعد أن انقسم البلد رسميا، بين 8 و14 آذار، عدت إلى مزاولة مهنتي، كنت أتسلل إلى مواقع العمل، بسرية تامة وبحذر شديد، وغالبا ما كنت أقع في شباك عنصر أمني، يصطادني من بين كل الصحافيين والصحافيات، فيمشي باتجاهي مشية عسكرية، لا ينقصها سوى مدافع على الجانبين، وطائرات حربية تحلّق فوق رأسينا، يقف قبالتي ويُحني رأسه صوبي، ويُسمعني بصوت هامس، كلمات ليست كالكلمات، فأدرك من ذبذباتها، أنه غير مرغوب في وجودي، فأنسحب من المكان بهدوء، أجرجر خلفي أذيال سرّي المفضوح.
أكثر المراحل تعبا، في مهنتي، كي لا أقول خطرا، كانت تلك التي عملت فيها مراسلة لجريدة "المستقبل"، بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري
في المناسبات العامة، كالأعياد أو المظاهرات أو ما شابه، حين كان يُطلب مني إجراء مقابلات مع الناس، كنت أتوسل من أعرفهم ويعرفونني، أن يقبلوا بإعطائي حديثا ولو تافها، لكن بلا جدوى، فأُضطر أن أتذاكى، فأتقدم نحو هدفي، من دون أن أُفصح عن هويتي، كي يرتاح المستهدفون، وأحصل بالتالي على مبتغاي. لكنه سرعان ما يشفقني قلبي، وينتابني الندم والخوف، فأعترف. ورغم أنني كنت أُصرّح بصوت، يكاد يكون غير مسموع، عن الورطة التي أقحمتهم بها، إلا أن الحقيقة تقع وقوع الصاعقة على آذانهم، فيصبحون كمن يأكل الطير من رؤوسهم، ويفرنقعون عني، كمن يفرنقع عن ذي جنة! فأعود إلى البيت، لا سمك في سلّتي.
بعد مرور سنوات، ورغم تبدّل الأحوال قليلا، ما زال بعض أقاربي يتعاملون معي كمندسّة، ويحاذرون الحديث عن مشاكل الطائفة وهمومها أمامي، لئلا ألتقط وجعا يكتمونه، وحرصا على "عدم نشر غسيلهم الوسخ" أمام الناس، وخوفا من شماتتي، كما يتخيلون!
أما بعض أصدقائي الأوفياء، الذين كانوا يبررون عملي المحرج مع الجهات "المعادية"، أو كما يقول الممثل المصري (مع التانيين) حفظا للعشرة الطيبة، فقد باتوا حاليا، يفنّدون لي الأعذار، ويسوقون الأسباب، التي دفعتني للعمل مع "الآخرين"، كوننا دخلنا في زمن الانهيار.
وهناك جيراني وأهالي المدينة التي أقيم فيها، والحي الذي عشت فيه عمرا طويلا، فما زالوا يتعاملون معي كعنصر مشكوك بولائه، أو كغريب يتطفل على حياتهم ومناسباتهم وعلاقاتهم، ويذهب المحازبون منهم إلى حد اتهامي بالتجسس على المقاومة، ويرمونني بأقذع الاتهامات، بدءا من خيانة الطائفة، وصولا إلى العمالة لإسرائيل.
لم يكن سهلا عليّ، العمل في الصحافة الميدانية، في بيئة مصابة بعمى الألوان، لا ترى سوى لونين فقط، أما الباقي فبيارق حربية
وما أصعب نهاراتي التي تبدأ بحادثة أو بموقف يهدّد وجود طائفتي الكريمة، التي تعتبرني عميلة لإحدى الطوائف الأخرى الكريمة، كحادثة "كوع الكحالة" مثلا، والويل لي إذا ما صرّح أحد "الآخرين" بما يستفزّ مشاعرها الحسّاسة، وكينونتها الأصيلة، فإذا ورد في كلامه موقف جرح منها جارحة، فسوف أمضي أياما مشحونة بالتهديد والتجريح، واللوم الذي يشبه الاستجواب، والعتاب الذي يصل حد السُباب.
على أن أصعب الأوقات، التي تمرّ عليّ وعلى عائلتي الصغيرة، هي الأيام العشرة الأولى من شهر محرّم، أي عاشوراء، حيث أُصبح في نظرهم "الشمر"، و"يزيد" وجيشه، وبني أمية كلهم دفعة واحدة، فتنطلق الألسن بكيل اللعنات، وتستعيد أجواء الجريمة التاريخية، لتصل إلى حقيقة أخرى مغايرة للحقائق التاريخية الثابتة، وهي أن الجهة التي أعمل لحسابها هي التي قتلت الإمام الحسين في كربلاء، وكانت قبل هذه الموقعة قد اغتصبت الولاية من والده الإمام علي حين دبّرت المؤامرة مع أجهزة استخبارات معروفة وطبّقتها في سقيفة بني ساعدة!
أكتب ما عانيته وما زلت أعانيه على الورق، أو بالأحرى على "الوورد"، لأن صحافيا صديقا، طلب مني أن أحكي عن كذبة حرية الرأي لدى بيئة المقاومة، عن تجريم الآخر المختلف، عن تجربة العمل في محيط يدّعي أنه صديق، وهو لا يخجل من إظهار عدائه، وقال لي حرفيا: "لقد صدّعوا رؤوسنا، بأنهم أصحاب تجربة فريدة، في المقاومة والسياسة والعمل الاجتماعي والثقافة والصحافة، وهم يسلخون جلود من يخالفهم الرأي، أو من ينتقدهم، ولا يتورعون عن قتلهم أيضا"، وأنا أحببت أن ألبّي طلب صديقي الصحافي!