يصعب تحديد السبب، لكن الواقع يقول إنه قانون يأبى أن يطرح عن نفسه ثوب المشروع، فلأزيد من ثلاثين سنة يستمر الحديث عن قانون الفنان الجزائري كضرورة ملحّة ومستعجلة، بل يوصف أحيانا بالقانون الذي من شأنه أن يسمح للمؤسسة الرسمية أخيرا بإرساء سياسة ثقافية حقيقية في إطار شراكة عادلة، تجعل من الفنان والمثقف الجزائري طرفا فاعلا في المشهد الثقافي بفضل ما سيحقّق له هذا القانون من استقلالية مادية وتمركز اجتماعي لطالما طالب بهما.
لسبب غامض يكرّس النقاش بخصوص هذا القانون، خاصة الذي دعت إليه وزيرة الثقافة الحالية الدكتورة صورية مولوجي أخيرا، اعتقادا مثاليا في أنه الخلاص الذي طالما انتظره المجتمع الفني في الجزائر، وبأنه الحلّ النهائي لجميع المشاكل الاجتماعية للفنان، متجاهلا حقيقة أن المطالب الأولى لم تكن مجرد قانون يصدر، بل نظاما كاملا متكاملا يحفظ حقوق الفنانين ويحدّد واجباتهم، ولعل أهم تلك الحقوق تلك المتعلقة بصفة الفنان التي تصرّ المؤسّسة الرسمية على اعتباره حرفيا يخضع في جباياته وحمايته الاجتماعية إلى ما يخضع إليه الحرفي، وبالتالي فهي تنظر إلى العمل الفني على اختلافه بمنظور تم التخلي عنه عمليا في القرن الرابع عشر إثر صدور كتاب "عن الرسم" لليون باتيستا ألبرتي عام 1435، والذي استعرض فيه الخصائص اللازمة لمن يمكن وصفه فنانا معترفا به وفصل بشكل تام بين صفتي "الحرفي" و"الفنان"، وهو الكتاب الذي تأسّست عليه لاحقا جميع النظريات المتعلقة بماهية الفن بداية بإصلاحات الرسام جاك ريستو (1681) وانتهاء بتنظيرات جورج ستاينر (1929-2020)حول الفن والثقافة ومرورا بالمخاض الطويل الذي عرفه نظام الحماية الاجتماعية للفنان في العالم، سيما المعتمد في فرنسا المتميز عن غيره بالتطور والتكيف مع الواقع ومستجدات الحياة الفنية والإبداعية المتحركة.
جاء قانون 2014 يتيما غير قابل للتطبيق بسبب انعدام الإطار الاجتماعي له، سيما ما تعلق بتحديد موارد الفنان والمؤلف ودور مؤسسات الدولة في توفيرها
في عام 2014 صدر "قانون الحماية والخدمات الاجتماعية للفنان والمؤلف الجزائري"، الذي كان يفترض أن يكون واحدا من حزمة قوانين تصدر تباعا، تعنى بتنظيم الحياة المهنية والاجتماعية للفنانين الجزائريين، إلا أن ذلك لم يتحقق قطّ، بل ظل قانونا يتيما لم يتناول إلا شقا بسيطا من الحقوق التي يبدو أن العقل التشريعي في الجزائر لم يستوعبها بعد، فعلى الرغم من أهميته، إلا أنه لم يأخذ بعين الاعتبار الواقع المعيشي للفنان الجزائري وتطوراته، كما لم يستوعب جيدا الطبيعة القانونية لحقوقه التي هي أعقد من الأجر والراتب المنصوص عليهما في قانون العمل، على اعتبار أنها حقوق تأليف وأداء في معظمها. وجاء هذا القانون في روحه ليعتبر "الفن والتأليف" من الأعمال الحرّة أو من أعمال الحرفي وإن لم يصرح بذلك مباشرة، وقد يستشف ذلك من نسبة الاشتراكات المالية المطالب بها الفنان ليضمن حدّا أدنى من الحماية الاجتماعية، لكن تبقى أهم المثالب على هذا القانون أنه حدّد سقفا للأجر الذي يتقاضاه الفنان أو المؤلف، بحيث لا يتجاوز ثلاث مرات الأجر الوطني الأدنى المضمون، وهذا من دون أن يحدّد مصادر هذا الأجر الذي هو في الأصل مقابل عمله الفني، المفترض أن يُحدَد ويُسقّف بحسب طبيعة النشاط.
جاء قانون 2014 يتيما غير قابل للتطبيق بسبب انعدام الإطار الاجتماعي له، سيما ما تعلق بتحديد موارد الفنان والمؤلف ودور مؤسسات الدولة في توفيرها وعلى رأسها وزارة الثقافة من خلال صناديقها المالية الخاصة والديوان الوطني لحقوق التأليف. كما أن استحالة تطبيقه تكرّست أكثر بعدم صدور أي تعديل على قانون العمل الجزائري يعنى بالفنّ بوصفه مهنة ووظيفة، ويوفر الحماية على العقود التي قد يبرمها الفنان والمؤلف في إطار عمله، ثم إخراجها من مجال العقود المدنية إلى ما يعتبر عقود عمل خاصة. وهو المسعى الذي أرادته الوزيرة الجزائرية السابقة الدكتورة مليكة بن دودة أثناء توليها وزارة الثقافة في الفترة الممتدّة بين 2020 و2021 من خلال مشروع مرسوم ينظم علاقات العمل للفنانين والمؤلفين، إلا أنه لأسباب مجهولة لم يصدر أبدا.
كأن مشروع القانون إعادة إنتاج للسياسة القائمة التي تعتبر الفنانين مجرد فئة اجتماعية هشة، ولا يمكن أن يشكلوا فئة عمالية منتجة وفاعلة، وجب تأطيرها اجتماعيا وماليا كأي فئة عمالية أخرى
عرفت فترة استوزار مليكة بن دودة انتعاشا مؤقتا على مستوى التفكير في القوانين المنظمة لمهن الثقافة على غرار المسرح والكتاب والسينما، إلا أن معظم مشاريعها- على الأقل المعلن عنها- بقيت مجرد تنظير بسبب عدم استعانتها بالأطر المؤهلة لتحقيق نظرتها. بل إن بعض تلك المشاريع أحدثت شرخا عظيما في المجتمع الثقافي في الجزائر باعتنائها بنحو مفرط بالمسرحيين دون غيرهم من فناني الأداء والفاعلين الآخرين في الحقل الثقافي، على غرار ما حدث مع مرسوم 2021 الذي فصل بين صفتي الفنان والمسرحي، ما أخرج هذا الأخير من مجال قانون يفترض أن يحمي مصالحه، وهو نقطة كثيرا ما أشار إليها المخرج المسرحي محمد شرشال صاحب المسرحية الشهيرة "جي بي أس" في أكثر من ظهور إعلامي له.
وتبقى أهم المحاولات في توفير موارد مالية للمؤلفين، تلك المتعلقة بالإتاوة على الاستنساخ الخطي التي حاولت تأطير الاستفادة منها من خلال إنشائها للجنة تابعة للديوان الوطني لحقوق المؤلف، يناط بها توزيع الدعم المالي على المؤلفين من خلال إقامات الإبداع ومشاريع التفرغ للكتابة أو الترجمة وغيرها من مشاريع تتعلّق بمهن الكتاب، إلا أن هذا السعي سرعان ما تراجع بسبب الغموض المستمر حول سبل توزيع هذا الدعم ومعايير اختيار أعضاء اللجنة المانحة على غرار الغموض المتعلق بمعايير اختيار أعضاء اللجان التابعة لوزارة الثقافة، بما فيها لجنة إعداد قانون الفنان التي أنشأتها الوزيرة الحالية شهر أغسطس/ آب من السنة المنصرمة، والتي شرعت في مشاورات موسّعة عبر العديد من المدن الجزائرية شهدت الكثير من الانتقاد، سيما أنها مشاورات عامة مفتوحة غير متخصصة، ما يوحي بأن ما سيتم اقتراحه قريبا ليس تشريعا يؤطّر مهنة الفن بل قانونا للتكافل والتضامن ليس أكثر، وكأنه إعادة إنتاج للسياسة القائمة التي تعتبر الفنانين مجرد فئة اجتماعية هشة، ولا يمكن أن يشكلوا فئة عمالية منتجة وفاعلة، وجب تأطيرها اجتماعيا وماليا كأي فئة عمالية أخرى، هذا بافتراض أن يخرج هذا القانون أخيرا من رحم العبث ويتمكن من طرح ثوب المشروع عنه.