في المحصلة، أسهمت كل تلك الظروف الدولية والإقليمية الصعبة في إطلاق "عملية السلام العربية- الإسرائيلية"، عبر مؤتمر مدريد (أواخر 1991)، الأمر الذي فتح المجال أمام عقد اتفاق أوسلو (1993)، مع كل التغيرات التي نجمت عنه في خطابات وأشكال كفاح الفلسطينيين، ومنها تحول الحركة الوطنية الفلسطينية إلى سلطة، وتغير مفهوم قضية فلسطين فلسطينيا وعربيا ودوليا.
الاستثمار الإسرائيلي للغزو
للوهلة الأولى بدا أن إسرائيل تفاجأت من غزو العراق للكويت، مثلما تفاجأت فيما بعد من الحرب التي شنّها التحالف الدولي (الغربي أساسا) ضد العراق، لا سيما باستثنائها من ذلك، الأمر الذي جعلها تبني خياراتها في البداية على استبعاد قيام الولايات المتحدة بأي عمل عسكري مباشر لإخراج الجيش العراقي من الكويت.
وقد عبر زعيم حزب العمل ورئيس الحكومة الأسبق إسحق رابين عن ذلك بقوله: "لا يملك الغرب خيارا عسكريا استعماريا للوضع الناشئ في الخليج... لا تستطيع الولايات المتحدة إرسال قوات عسكرية لاستخدامها ضد العراق، ولا أعتقد أنها ستتورط في ذلك" ("يديعوت أحرونوت" 3/8/1990). إلا أن المعلق الاستراتيجي العسكري زئيف شيف رأى أن الولايات المتحدة "تستطيع أن تمنع تصدير النفط العراقي، وأن تفرض على العراق حصارا، لكن هذه خطوة متطرفة، ومن المشكوك فيه أن تحظى بتعاون من جانب الاتحاد السوفياتي والدول الأوروبية. كما أن العالم العربي سيرفض التعاون في خطوة كهذه. ومن هنا فإن الولايات المتحدة ستكتفي بعقوبات اقتصادية" ("هآرتس" 3/8/1990).
بالنتيجة فإن الحرب التي شّنتها الولايات المتحدة مع الدول الغربية، لإخراج الجيش العراقي من الكويت أقلقت إسرائيل، لأنها بيّنت عجزها عن المساهمة في ضمان أمن المنطقة، واستقرار ما يعرف بالمصالح الأميركية فيها، وبيّنت أيضا إمكانية الاستغناء عنها في الدفاع عن تلك المصالح، بتدخّل عسكري مباشر من قبل الولايات المتحدة والدول الغربية. ومع ذلك حاول وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك موشيه آرنس، التخفيف من وطأة هذا التحول ودلالاته الاستراتيجية، بقوله: "إن الأميركيين يحاولون خلق جبهة عريضة تشتمل على دول عربية... وفي هذه الأوضاع، من المفهوم أنه ليس لهم مصلحة في إشراك إسرائيل في هذا الجهد. ولذلك فإن إسرائيل ليست شريكة فيه" ("يديعوت أحرونوت" 10/8/1990).
رغم ذلك فإن إسرائيل سرعان ما تجاوزت ذلك القلق إلى محاولة الاستثمار في ذلك الحدث، في عدة مجالات، ضمنها: الترويج لفكرة أن العالم العربي لا يمكن الركون إليه، وأن مشكلته لا تتعلق بوجود إسرائيل، وإنما تتعلق بالواقع العربي ذاته، وأن هذا الوضع يؤكد سلامة منطقها في التشديد على تعزيز أمنها، وضمان استقرارها، وضمان تفوقها العسكري في المنطقة، من دون صلة بأي عملية تسوية، ما يتطلب من الدول الغربية الاستمرار في تقديم الدعم لها. وقد عبر آرئيل شارون عن ذلك، حين اعتبر أنه في غزو العراق للكويت "يتخذ النزاع العربي- اليهودي في أرض إسرائيل حجمه الحقيقي، كمشكلة هامشية وثانوية في أهميتها"... وأنه ينبغي لإسرائيل "أن تتشدّد من دون كلل، سواء من زاوية وجودها أو أمنها" ("يديعوت أحرونوت" 10/8/1990).
ومن البديهي أن إسرائيل ارتاحت كثيرا لقيام الدول الغربية بتحطيم الجيش العراقي، وإضعاف العراق، ما يعني إضعاف الجبهة الشرقية، من دون أن تتكلف شيئا، وهو أمر يعتبر في صميم الأهداف التي تتوخّاها إسرائيل على المدى الاستراتيجي والبعيد.
الاستثمار السياسي في السلام
بيد أن الاستثمار الأساسي والسياسي، لتلك الحرب تمثل بما افترضته الولايات المتحدة بمثابة فرصة سانحة لها، بهيمنتها على النظام العالمي كقطب أوحد، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وعلى النظام الإقليمي، تبعا للتداعيات الناجمة عن غزو العراق للكويت، وذلك لفتح صفحة جديدة في العلاقات العربية- الإسرائيلية، تحت غطاء عملية التسوية مع الفلسطينيين وهو ما حصل في مؤتمر مدريد (أواخر العام 1991).
ويجدر التذكير هنا بأن عملية التسوية تلك، التي انطلقت من مدريد، لم تكن تركز على تسوية تعيد الأراضي الفلسطينية أو السورية المحتلة (1967) إلى أصحابها، بقدر ما كانت تركز على تخليق نظام إقليمي جديد، تكون إسرائيل ركنا مركزيا فيه، ويتأسس على التعاون المتبادل في مختلف المجالات.
وكانت تلك المفاوضات قد انطلقت في حينه، في مسارين: ثنائية، بين إسرائيل وكل واحد من الأطراف المعنية (فلسطين، سوريا، الأردن، لبنان)، ومتعددة، هدفها فتح المجال أمام التعاون الإقليمي، بخلق منظومات مشتركة (في الاقتصاد والمياه والبني التحتية والترتيبات الأمنية) بين إسرائيل والدول العربية، وبمشاركة أطراف دولية أهمها أوروبا والولايات المتحدة، وهي المفاوضات التي توّجت بعقد مؤتمرات "القمة الاقتصادية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا"، التي كانت تعقد بشكل دوري سنويا (عقد أربعة مؤتمرات في الدار البيضاء وعمّان والقاهرة والدوحة، (1997-1994)، وكان يجري التنظير للمفاوضات المتعددة، ولتلك المؤتمرات، بدعوى إقامة نظام إقليمي جديد في الشرق الأوسط، وهو ما شرحه، وروج له، شيمون بيريس رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق في كتابه "الشرق الأوسط الجديد".
عثرات الموقف الفلسطيني
شكّل الموقف الفلسطيني الإشكالي والملتبس، الذي مثّلته قيادة منظمة التحرير الفلسطينية ورئيسها ياسر عرفات، لحظة تصادم كبيرة بين الحركة الوطنية الفلسطينية والهيكل السياسي العربي، من دون أن يكون لذلك الموقف أية عوائد إيجابية على تلك الحركة، وعلى الشعب الفلسطيني، لا قريبة ولا بعيدة، بل إنه أضر بالفلسطينيين، وبقضيتهم، على كافة الأصعدة.
في تلك المرحلة، بدا أن النظام الرسمي العربي انقسم إلى محورين: الأول، رفض الغزو وأدانه، وساند الكويت، ودعم أي عمل عسكري لإخراج الجيش العراقي منه. والثاني، بدا وكأنه لا يمانع ما جرى، أو يتحفظ على أي مسعى، أو حل عسكري، لاحتلال دولة الكويت. وبينما كان المحور الأول في قلب تحرك دولي عارم ضد الغزو، وهو ما تم التعبير عنه في قرار مجلس الأمن الدولي رقم 660 (2/8/1990)، أي يوم الغزو، والذي ندد بالاجتياح العراقي للكويت، وطالب بانسحاب الجيش العراقي بشكل عام وفوري وغير مشروط، كان المحور الثاني خارج هذه المعادلة الدولية، أو منفصما عنها، وهذا ما لم يكن في إدراك القيادة الفلسطينية في تلك اللحظة التاريخية الحرجة، كما لم تدرك أبعاد الخطوات الدولية التالية، التي تحدث عنها مضمون قراري مجلس الأمن الدولي التاليين (661 و662، 6 و9/8/ 1990)، وقد تضمنا فرض عقوبات على العراق، ولم تدرك كذلك أبعاد قرارات مؤتمر القمة العربي (10/8/1990) والتي تضمنت التنديد بالغزو العراقي، ودعم الخطوات التي اتخذتها دول الخليج العربي في سبيل استعادة الكويت، وضمنه طلبها قوات دولية لهذا الغرض، وإرسال قوات عربية من أجل الإسهام في ذلك أيضا.
ويرصد الأكاديمي والمؤرّخ الفلسطيني وليد الخالدي، بمرارة، هذه اللحظة التصادمية، في مقال له عنوانه: "أزمة الخليج: الجذور والنتائج" (مجلة الدراسات الفلسطينية، العدد 5، شتاء 1991)، بقوله: "في هذا الوضع الصعب صوّتت منظمة التحرير الفلسطينية مع ليبيا والعراق ضد هذا القرار".