سيقول جان بودريار، الذي ولد سنة 1929، عن ثورة مايو/أيار 1968 إننا "كنا ننزل من تعالي التاريخ إلى نوع من محايثة الحياة اليومية ومعانقتها". لا يمكننا أن نفهم كتابات بودريار من غير أن نتذكر علاقته هذه بأحداث مايو/أيار، وكونه تتلمذ، في الوقت نفسه، على هنري لوفيفر، كما تتلمذ على رولان بارت. وقد مكّنه هذا "التكوين المزدوج" من أن يتبيّن ما لحق بالنظام الرأسمالي من تجدّد. لذا سيواصل النقد الذي كان أستاذه لوفيفر مهّد له بهدف إعادة النظر في بعض مفهومات الماركسية التقليدية، وخصوصا في كتابيه "في نقد الحياة اليومية"، و"قضايا حالية للماركسية"، وسيعمل على تطويره آخذا على الماركسية كونها ظلت عاجزة عن كشف أشكال الاستلاب الجديدة التي لا تقتصر على الاستلاب المادي، وإنما تتخذ كذلك أشكالا ذهنية.
فما يهم هذا المفكر ليس ما وصفه ماركس من استلاب متولّد عن الشغل، وإنما الكيفية التي تعاش بها الأشياء، أي الكيفية التي تنظّم بها منظومةُ الاستهلاك العلاقات الاجتماعية. فالاستهلاك هو استعمال لعلامات، واتخاذ موقع نسبة إلى هذه العلامات، وما يهم ليس الموضوع المستهلك، وإنما منظومةالموضوعات نفسها. فبعيدا من أن يكون الاستهلاك مجرد ممارسة مادية، "هو فعالية توظف منظومة العلامات"، وهذا يعني أنه "لكي يصبح الموضوع موضع استهلاك، ينبغي أن يصير علامة". هذا ما يبرّر لا محدودية الاستهلاك، الذي لا يتوقف عند إشباع حاجيات، وإنما لا ينفك يطمح إلى مزيد من العلامات.
في المجتمع الاستهلاكي، لا يتم الأمر عن حرية واختيار، وإنما بالخضوع لقواعد المجتمع ومعاييره. هكذا فالإشهارات والإعلانات التي توهم الفرد بأنها تتوجه إليه، وتُعنى بذوقه وصحته ومظهره، لا تعمل، في حقيقة الأمر، إلا على إعادة إنتاج الشكل النموذجي للموضوع الذي تقدمه، ما دام الجميع سينتهي بأن يشتري المنتوج نفسه. ستحلّ إعادة الإنتاج الاجتماعي هذه محل الإنتاج كنمط أساس لتنظيم المجتمع، حيث تبني الهويات نفسها من طريق تمثل النماذج والقواعد المهيمنة. في هذا الإطار يبين بودريار أن الإعلان مرآة يرى فيها المجتمع ذاته، وما يرغب فيه، فيسعى الى أن يتمثّل الصورة التي تعكس عنه. إلا أن مرايا المجتمع المعاصر مرايا منكسرة لا تكتفي بعكس صور، وإنما تساهم في بناء هويات. في هذا المعنى يغدو الإعلان نفسه موضوع استهلاك. بل إن بودريار يذهب إلى القول إن المجتمع المعاصر لا يستطيع أن يعيش من غير إعلانات، ما دام أفراده لا يكتفون باستهلاك المواد التي تعلنها الإشهارات، وإنما يستهلكون الإعلانات ذاتها.
يذهب بودريار إلى القول إن المجتمع المعاصر لا يستطيع أن يعيش من غير إعلانات، ما دام أفراده لا يكتفون باستهلاك المواد التي تعلنها الإشهارات، وإنما يستهلكون الإعلانات ذاتها
في كتابه "من أجل نقد الاقتصاد السياسي للعلامة" (1972)، يعيب بودريار على منظّري المجتمع الرأسمالي، بمن فيهم ماركس، كونهم اقتصروا على التمييز بين القيمة الاستعمالية للموضوع، وقيمته التبادلية. لذا يضيف إلى هذه الثنائية طرفا ثالثا هو "القيمة الرمزية" للموضوع، وهي القيمة التي يكتسبها في علاقته مع فاعل آخر، وهي قيمته كعلامة نسبة إلى الموضوعات الأخرى. فالقلم يمكن أن ينظر إليه من حيث استعماله، كما يمكن أن ينظر إليه بما يعادله من أيام عمل، لكنه يمكن أيضا أن يكون موضع إهداء، أو أن يخوّل مكانة اجتماعية.
ستمكّن هذه "القيمة الرمزية" فيلسوفنا من أن يتجاوز التحليلات التقليدية للمجتمع الرأسمالي، الذي انتقل من الحداثة التي كانت تقوم على مفهوم الإنتاج بما يرتبط به من مفهومات الاستلاب والتشيّؤ، إلى ما بعد الحداثة، حيث يسود ما يمكن أن ننقله إلى اللغة العربية بمفهوم التشبّه simulation ويقصد به بودريار جميع أشكال التمثّل الثقافي التي تتشبه بالواقع: من فضاء سيبيرنيتي وواقع افتراضي. لا يكتفي التشبّه باستنساخ الواقع، وهو لا يقف منه موقف المنفعل، بل إنه يفعل فيه، فلا يكتفي بحجبه. إنه يجعله يكف عن أن يكون واقعا réelكي يفوق ذاته ويغدو Sur-réelواقعا سورياليا. لقد دخلنا اليوم عهدا جديدا كل الجدّة حيث صارت النسخة تحل محل الأصل، وتنتهي بأن تصبح أكثر واقعية منه. عندما تتحرّر النسخة من الأصل، وتنفصل عنه، تغدو مجرد "سيمولاكر"، على غرار ما يتم في إحدى قصص بورخيس حيث تحل الخريطة محل الأرض، وحيث تتحول الخريطة من محاكاة لواقع إلى استراتيجيا للتوليد. وبما أن هذه النسخة-السيمولاكر لن تعمل إلا على توليد نسخ شبيهة، فإن المجتمع برمته سيمتلئ سيمولاكرات. فينحو الافتراضي نحو الإيهام التام. وفي النهاية نغدو أمام نسخ لا تنسخ شيئا، نسخ لا "أصل" لها. هذا ما يعبر عنه بودريار باختفاء الواقع بفعل نسخه المضاعفة.
نحن بعيدون هنا عما كانت الماركسية التقليدية تنعته بالأوهام والقلب الأيديولوجي، والاستلاب والوعي المغلوط. ذلك أن هذه المفهومات كانت تتحدّد في الفكر الماركسي التقليدي نسبة إلى واقع. في هذا المعنى كان ماركس قد كتب: "إذا كنا نريد أن نتخلّى عن الأوهام المتعلقة بوضعنا، فذلك يعني أن علينا أن نتخلى عن وضع يكون في حاجة إلى أوهام". هذه الإحالة على وضع تتحدّد في ضوئه الأوهام لم تعد تعمل هنا. فكأنما ليس الواقع هو الذي يتجاوز الأوهام، وإنما الوهم هو الذي يتجاوز الواقع، بل إنه يقضي عليه.