وغير المشي الملازم للفكر والكتابة - كما هو شائع منذ عرّاب المشّائين أرسطو حتّى ما بعد فيلسوف الموسيقى نيتشه الذي قَرَنَ الفلسفة بالمشي على الثلج في صرود الجبال- ثمّة ما هو أَجَلُّ: الرّكض! ولعلّ أقربَ من يُجلْجِلُ اسمه من الكُتّاب المعاصرين هو الروائي اليابانيّ هاروكي موراكامي الذي ناغمَ بين الكتابة والركض، الماراثون تحديدا، وهذا ما أفْرَدَ له كِتابا مكثّفا بعنوان: ما أتحدّث عنه عندما أتحدّث عن الركض.
بدأ موراكامي الكتابة بالمصادفة حين كان يشاهد مباراة بايسبول، واصطدمت كرةٌ بعصا كان لصداها إشراقة الرغبة في الكتابة هكذا على نحو ملتبس، وببساطة شرع في الليلة نفسها في كتابة رواية "أسمع الريح تغني" التي ستفوز بجائزة لاحقا. أَغلَق نادي الجاز الصغير الذي يديره مجازفا بالتفرّغ للكتابة، وقد انتابته فكرة الجري لأن الكتابة تتطلب الجلوس طويلا، الى درجة زاد وزنه أرطالا. هكذا على نحو تلقائي أيضا، كما بدأ الكتابة بدأ الركض، المسافة القصيرة تلو المتوسطة تلو الطويلة، إلى أن صار بقدرة قادر عدّاء، بل عدّاء محترفا يشارك في ماراثونات العالم (أثينا، هاواي، كاناغاوا، نيويورك، بوسطن، موراكامي...إلخ).
كتاب موراكامي عن تجربته الخاصة في الركض هو في الوقت نفسه عن تجربته في الكتابة الروائية، وبالذات عن التناغم الهارموني بين إيقاع الماراثون وإيقاع الرواية.
لا شيء يحدث في الكتاب سوى رهان الركض الى الأقصى، إلى درجة أنّ ملوحة العرق تلفع القارئ. الركض المصحوب بالسماع الدائم للموسيقى (لوفن سبونفل- ريد هوت تشيلي ببرز- غوريلاز- بك- ذا بيتش بويز- كريدنس كليرووتر ريفايفل...). الركض وتخطي حدود المسافات. الركض وتجريب أشكال أخرى من بذل الجهد العضلي كالسباحة والدراجة الهوائية (الترياثلون)، وكل هذا الاستغراق في هوس تحطيم الأرقام يوازيه الاستغراق في هوس الكتابة الروائية.
خلف كل هذه الغرابة من أسلوب حياته، ثمة العزلة الهائلة التي يغرق فيها وجود الكاتب، فليس يجاوره سوى زوجة داعمة، وعالمه متوحّد، ينأى إلى أقصى الخلوة، بعيدا من الجموع التي يعاني رهابها.
في مجرى ركضه في أكثر من مدينة أقام فيها، لا يسترعي الانتباه إلا الكلاب النافقة على ناصية الطريق، كذا الإوز والقطط والسناجب والبقر المنهمك في أكل العشب غير مبال بما يحدث حوله.
فجأة، يَجْزُرُ موجُ كل هذا الجهد المبذول بإيمان وصرامة، ليمتدّ الموجُ الهائلُ لكآبة العدّاء التي يتوقّف عندها باستكناه المُعترف والخبير في آن واحد.
لا شيء بعد ذروة يبلغها الجسد، سوى التقهقر، وبذا لا يجدي عدو الماراثونات الكاملة، واستئناف التحديات المستحيلة، لا بدّ للقواعد أن تتغيّر، والحكمة تقتضي العودة إلى مبدأ الركض من أجل إمتاع النفس، لا غير.
بعيدا من متلازمة الركض كضرورة وحركيّة التفكير وألق الكتابة، نصادفُ في المقابل صورة العدّاء إزاء كآبته في توازيات وتقاطعات مجاورة:
لا شيء بعد ذروة يبلغها الجسد، سوى التقهقر، وبذا لا يجدي عدو الماراثونات الكاملة، واستئناف التحديات المستحيلة، لا بدّ للقواعد أن تتغيّر، والحكمة تقتضي العودة إلى مبدأ الركض من أجل إمتاع النفس، لا غير
في أولى روايات الأميركي ستيفن كينغ تحت عنوان "المسيرة الطويلة" التي صدرت بلقبه الأدبي ريتشارد باكمان وتدور في مستقبل أميركي محكوم برعب ديكتاتورية شمولية، ذات منحى ديستوبي، إذ يلتحق مئة مراهق بمسابقة مشي سنوية تُعرف بالمشي الطويل، ويُفرض على كل سائر ألا يخفض من وتيرة مشيه على طول فراسخ المسار، وإلا يتلقّى تحذيرا أوليا، إن فعل وخالف القواعد، ثم بعد ثلاثة تحذيرات يتلقى بطاقة، وهي نذير رميه بالرصاص من طرف جنود على ناصيتي الطريق، يعسكرون في مدرعات، ليس هناك محطة استراحة أبدا، ولا إمكان لتوقفات طارئة لاسترجاع الأنفاس بل على السائر ألا يتوقف لأي سبب كان، حتى أنّ لا خط نهاية محدّد أيضا... إلى أن يظل واحد منهم جميعا، ولكن ما جدوى الجائزة المالية أمام ما تكبّده من المآسي المتواترة، بدءا بكوابيس قتل 99 من منافسيه، فضلا عن جحيم المعاناة التي تجشّمها جسدُه الطريّ بالنظر إليه كفتى في 18 سنة؟
كآبة العدّاء تتواتر بصورة مغايرة من عمل فني الى آخر، مجازية أكانت أم فعليّة، ونتصادى معها في الفيلم الشهير "فوريست غامب"، الفتى المقعد الذي يتنمّر عليه أقرانه، فتحفزه صديقته كي يركض، وما إن حاول الركض ونجح في كسر الطوق الذي يجهز على قدميه بسبب عاهة مستديمة، ما عاد يتوقف عن الركض، محققا إنجازات خارقة في دراسته وعمله وتجاربه. ولم تقف فلسفة ركضه عند متعة شخصية بل أمست ظاهرة عامّة، إذ تحوّل إلى رمز، بطل ملهم، بل شيخ له مريدوه، ظلوا يتعقبونه ويركضون وراءه حتى بلوغه منتصف طريق صحراويّ، عندئذ صاح: تعبتُ، سأعود الى المنزل.
كفّتْ متعةُ الركض وغرابته أن تظلّ خاصّة، وما إن تحوّلت إلى شأن عام حتى فقدَ فوريست غامب متعة استئناف الجري وسحريته، إذ بات بلا معنى.
غير بعيدٍ من مدار السباقات الطويلة الممهورة بالقلق الحاد، يتعقّب الروائي البرتغالي أندره أوليفيرا في السيرة الروائيّة "ماراثون الخلود" الحكاية الواقعيّة لعدّاء الماراثون البرتغالي فرنسيسكو لازارو، وهي مؤسّسة حول حلم هذا الأخير بالفوز بأيّما شقاء مهما كان، في الماراثون الأولمبي الذي ستحتضنه ستوكهولم سنة 1912.
يخوض السباق بلا مدرب، وعينه على الميدالية الذهبية، في مهبّ الانفعالات اللاعجة في الداخل، المتشابكة بالصخب الجماهيري في الخارج... كل ذلك متأرجحا بين سيرته الشخصية المأسويّة والطموحة وبين حبّه لبلده، إلى أن يسقط في الكيلومتر 29 ولم يتبق سوى 11 كيلومترا، ويقضي نحبه.
الفوز أو الموت، والموت حدث بسبب خطأ فادح على نحو كوميدي، فالعدّاء لازارو دَهَنَ جسده بمرهمٍ اقترحته عليه صديقته هانا، كيما يحافظ على السوائل في جسمه، غير أن مفعول هذا المرهم الخطير كان له الأثر النقيض الذي جعله يختنق، ويسقط على الدرج التاسع والعشرين في سلم الخلود الذي لم يبلغه البتة.
الحلم في ناصية، وقدرة الجسد في ناصية، وبينهما تتأرجح السيرة القلقة لعدّاءٍ حاول قدر المستطاع أن يهزم حدوده ولم يتجاوزها بسبب خطأٍ ركيك، ما أشبه حكايته بدعابة سوداء، فكانت النهاية الطارئة على مقربة من خطّ الوصول المظفّر لولا سطوة القدر السّاخر.