لكن... ماذا بجعبة "مناهضي الليبرالية"!

لليبرالية دون شك مأزقها ومشاكلها التي لا تُعد، لكن مناهضيها لا يعرضون أي بديل

لكن... ماذا بجعبة "مناهضي الليبرالية"!

من كل أنحاء العالم، لكن بالذات في منطقتنا، ترتفع الأصوات المناهضة لليبرالية بمختلف توجهاتها ومساراتها، السياسية والثقافية والاقتصادية والرمزية على حدٍ سواء. أصوات متأتية من استراتيجيات سياسية وآيديولوجيات فكرية ومنابت مجتمعية متنوعة، لكنها متوافقة ومتناغمة فيما بينها على اعتبار أن الليبرالية هي السبب الرئيس لـ"خراب العالم"، والتهديد الأبرز لمستقبله.

تتمركز مختلف تلك الأصوات حول التحذير الشديد من "أربعة أهوال عمومية"، يقولون إن المسارات والمخرجات الليبرالية تُنتجها وتتسبب بها، هي: تحطيم هوية العائلة، ومعها كل القيم المحافظة المرتبطة بها. وزيادة الفوارق الاقتصادية، سواء بين دول ومناطق العالم، أو ضمن مجتمعات الدولة الواحدة. وتحطيم الثقافات والقيم المحلية، بالذات عبر إلغاء العوالم الرمزية الخاصة بكل دولة، بسبب فاعلية الليبرالية في تكثيف العولمة وزيادة وتيرة الهجرة. إلى جانب اتهام الليبرالية بالوقوف وراء ظواهر مثل التلوث واختلال المناخ واعتلال الطبيعة.

أربع جهات واضحة الهوية والتوجه تقف وراء "الهجمة العامة" على الليبرالية على مستوى العالم، لكل واحدة منها ممثلون محليون في منطقتنا، في الغالب الأعم يشكلون العنصر الأكثر راديكالية في لوحة المناهضين: قوى الإسلام السياسي، بمختلف توجهاتها، ركن أساسي من التشكيلة، وإلى جانبها الأنظمة الشمولية المشيدة على قلاع من الاستبداد والعنف المحلي، ومعها تشكيلة واسعة من ذوي الآيديولوجيات القومية، والعنصريون بسوادهم. وطبعا يساريون متأتون من خلفيات متعددة، يجمعون مرارة الهزيمة الكلية بعنفوان تضخم الذات.

قد لا يجدي التهافت في الدفاع عن الليبرالية، خصوصا أنها صارت موزعة ومشغولة ومندرجة في أكثر من مستوى حياتي، سياسي وثقافي واقتصادي واجتماعي، وتبعثرت خلال تاريخها الطويل إلى أكثر من تيار داخلي، ودون شك ارتكبت الكثير من "الخطايا". غير أن الجواب الذي قد يكون له دلالة ما: لكن ماذا فعل وأنتج مناهضو الليبرالية هؤلاء؟ وما الذي يبشرون به في المستقبل المنظور؟

قد لا يجدي التهافت في الدفاع عن الليبرالية، خصوصا أنها صارت موزعة ومشغولة ومندرجة في أكثر من مستوى حياتي، سياسي وثقافي واقتصادي واجتماعي، وتبعثرت خلال تاريخها الطويل إلى أكثر من تيار داخلي، ودون شك ارتكبت الكثير من "الخطايا"

هل العائلة، وعموم المجتمع، أكثر رحابة وتصالحا ووئاما في المناطق المحكومة من أنظمة غير ليبرالية، المُسيطر عليها من هؤلاء المناهضين بالذات؟! فلو كانت الليبرالية تهدد بعضا من أركان التركيب البطريركي للعائلة التقليدية، وتخلخل بعض اليقينيات عبر ما تمنحه من حريات جسدية، فهل لأحد أن يُخبرنا عن نسب العُنف والقسر داخل العائلة الواحدة في المجتمعات الأخرى مثلا، فروض السلطوية والاستقواء الذي يمارس ضد النساء داخلها، أشكال القهر والتنمر على ذوي الخيارات الاجتماعية الخاصة ضمن عائلات ومجتمعات هذه الأنظمة، العذابات المتأتية من تلك التركيبة المحافظة والجبرية للبنيان المجتمعي، ومقارنة كل ذلك بما ينفرز عن الليبرالية في ذلك السياق. 

صحيح تنتج الليبرالية فوارق اقتصادية واضحة، بين الدول والمناطق، وحتى المجتمع الواحد. لكن، هل الفوارق الاقتصادية أقل وطأة في الدول والأنظمة غير الليبرالية، بالذات بين صفوة السُلطة والمحيطين بهم، والعوام الغارقين في أدنى درجات المهانة الإنسانية بسبب العوز والهشاشة الاقتصادية؟ طبعا لا يمكن لأحد أن يقارن المجتمعات والأنظمة الليبرالية بغيرها في مؤشرات من مثل "جودة الحياة"، و"متوسط الأعمار"، و"الخدمات الصحية المجانية".

فإذا كانت الليبرالية ذات مأخذ أولي وأصيل في المسألة الاقتصادية، لأنها كانت الأب المؤسس للرأسمالية، فإنها أيضا كانت ذلك التيار الذي خلق مجتمعات تستطيع بناء مؤسسات وتوازنات داخلية ضابطة لذلك الاختلال. فالليبرالية وحدها من أنتجت الصحافة الحرة والبرلمانات الديمقراطية وفصل السلطات والحق في الحماية الاجتماعية والضمان الصحي، ووحدها من أنتجت في بيئتها الذاتية الأفراد القادرين على التجمع والانتظام وتوجيه الانتقادات والتوبيخ وتغيير المسارات في دولها وأنظمتها.

صحيح تنتج الليبرالية فوارق اقتصادية واضحة، بين الدول والمناطق، وحتى المجتمع الواحد. لكن، هل الفوارق الاقتصادية أقل وطأة في الدول والأنظمة غير الليبرالية؟

أنظمة ودول طيف المناهضين خلاء تماما من كل ذلك، ومع الخلو ثمة انخراط تام في أجشع أنماط الليبرالية الاقتصادية الجديدة، وعبر أكثر صورها وحشية وعدمية، مع شحنة مضاعفة للنهب العام وتهريب الخيرات. هل لأحد أن يخبرنا عن الاقتصاد والفروق المجتمعية في دول مثل إيران وكوريا الشمالية وسوريا؟ ومقارنتها مع أسوأ الأنظمة الليبرالية أداء في ذلك السياق.

ولو كانت لليبرالية مساهمة في أشياء من مثل تدمير "الخصوصية الوطنية"، و"تدهور المناخ"، فإن قوسين كبيرين يجب أن يُفتحا بشأن هذه القضايا، وغيرها، في البلدان النظيرة. إذ لماذا مثلا تتدهور الطبيعة وتموت الحياة البرية في بلدان لم تشهد حياة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية ليبرالية في أي وقتٍ من تاريخها؟ وهل أدوار دولة مثل الصين- غير الليبرالية- في تخريب المناخ أقل وطأة من أفعال الأنظمة الليبرالية؟ والأهم: ما جهود المجتمعات والدول والمؤسسات المنبعثة من تجارب "غير ليبرالية" في مواجهة هذه الظواهر، مقارنة بما فعتله الجهات الليبرالية النظيرة؟ 

وماذا تعني، وكيف تُستخدم "الخصوصية الوطنية" في دول الاستبداد القروسطية؟ وهل كان لدول مثل تركيا وكوريا الجنوبية واليابان وأوروبا الشرقية لأن تعيش أنماط تنميتها الإنسانية الراهنة لولا تحطيم الليبرالية لما كان من قبل "خصوصيتها الوطنية"؟ وهل يمكن خلق أية تنمية إنسانية ما، دون شرط الاندماج مع الكل العالمي، بكل متطلباته، بما في ذلك التفكيك النسبي لـ"الذات المحلية".

أخيرا، هل من نظرة عامة لكل تجارب المناهضين لليبرالية، لأنظمتهم السياسية الاستبدادية، لجدران الخوف والعدوانية التي يشيدونها حول ذواتهم وتجاه العالم، لنسبة ونوعية مساهمتهم في الكل الإنساني، من التكنولوجيا والاقتصاد، مرورا بالرياضة والآداب والفنون، وليس انتهاء بالحريات واحترام آدمية الإنسان.

لليبرالية دون شك مأزقها ومشاكلها التي لا تُعد، لكن مناهضيها لا يعرضون أي بديل، خلا البؤس والكارثة. 

font change