ما أن تكون على جسر الطابقين في وسط بغداد من جهة الرصافة، وتبدأ بمشاهدة إطلالة المنطقة الخضراء ومشاهدة البنايات العالية متفرقة هنا وهناك. وعندما تنتقل إلى جانب الكرخ وفي الجهة المقابلة لنفس المنطقة الخضراء، نجد مجمعات سكنية توحي إلى معالم الترف. وفي طريق مطار بغداد الدولي نلاحظ أكثر من أبراج البنايات التي تحمل لافتات المجمعات السكنية.
كل هذه المظاهر توحي للوهلة الأولى بأنها مؤشر على تطور في البنى التحتية أو مشاريع سكنية لمعالجة أزمة السكن التي تم ترحيلها منذ العقد الأخير من القرن الماضي، حتى تضخمت وأصبحت مشكلة حقيقية تحتاج إلى مشاريع استراتيجية في بلد يغيب عنه التخطيط الاستراتيجي. لكن هذه المشاريع وغيرها تعبر عن تغول المافيات التي بدأت تتضح نشاطاتها في مجال الاستثمار العقاري، وفي المقاولات العامة، وفي قطاع البنوك والصيرفة.
وعند الوقوف في أحد تقاطعات الشوارع المهمة بمدينة بغداد بالجادرية أو المنصور، وتقوم باحتساب عدد السيارات الفارهة التي تُشاهدها تمر من أمامك ولمدة ربع ساعة فقط، ستجد أن أحدث موديلات سيارات الدفع الرباعي من ماركات "الشيفرولية"، و"الرانج روفر"، و"الكاديلاك"، و"المارسيدس (جي كلاس)"، والـ"بي إم دبليو"، وعند احتساب أثمانها ستجد أنها تتجاوز 4 ملايين دولار، فسعر بعضها تتجاوز المليون دولار! وعند المرور من أمام المطاعم الشهيرة في بغداد نجد هذه السيارات، مما يشير إلى معالم الترف لرواد هذه المطاعم، كما أن ذلك من بين مظاهر تكدس الثروات عند الفئات الاجتماعية التي تبحث عن استثمار أموالها في التميز الاجتماعي، وتشكيل ملامح طبقية لها.
اقرأ أيضا: العراق ليس وحيداً
لا يكاد أي مجتمع يخلو من تفاوت في الثروة والتمايز الطبقي، ويبدو التلازم واضحا بين شكل تصنيف الطبقة الاجتماعية وطريقة اكتسابها لثرواتها. لكن ما يحدث في المجتمع العراقي بعيد عن التقسيم الطبقي الكلاسيكي الذي نقرأ عنه في توصيفات أصحاب الثروات أو الفقراء وحتى الطبقة الوسطى. الظاهرة في العراق هي المافيات الصاعدة التي لا تندرج تحت أي توصيف طبقي اجتماعي. وربما أفضل من حاول دراسة وتحليل صعود أصحاب رؤوس الأموال المرتبطين بالتغير السياسي في مصر والعراق وسوريا، المفكر العراقي عصام الخفاجي في كتابه "ولادات متعسرة: العبور إلى الحداثة في أوروبا والمشرق".
وفي العراق يمكن وصفها بالطبقات الطفيلية الصاعدة وتضم رجالات السياسة وزعماء الحروب والجماعات المسلحة وشخصيات ترتبط بالمكاتب الاقتصادية للأحزاب السلطوية، وكذلك شخصيات ترتبط بصلات قرابة مع القيادات السياسية، ورجال الأعمال المقربين من الحكومات أو الزعامات السياسية. ومن ثم، فإن هذه الطبقة الطفيلية باتت تضم خليطا من مافيات وميليشيات ورجالات السياسة وحاشيتهم.
كان أول من تنبأ بظاهرة صعود المافيات عالم الاجتماع العراقي فالح عبد الجبار (توفي 2018) في مقال عنوانه "المافيات العراقية الصاعدة"، نُشر في صحيفة "الحياة" اللندنية عام 2009؛ إذ شخص عبد الجبار تاريخيا ولادة المافيا العراقية خلال فترة الحصار، وبلغت أوج ازدهارها بعد الغزو. واستخدم مقاربة المؤرخ الماركسي إريك هوبزباوم في كتاب "متمردون بدائيون" (Primitive Rebels)، بخصوص صعود المافيا، والتي تقول: "إن هذه الأخيرة تظهر في فترة الانتقال الفاصلة من مجتمع ريفي إلى مجتمع حضري كثيف، أو من نمط حكم مركزي، إلى نمط حكم آخر ما بعد مركزي". وهنا يعلق عبد الجبار: "إن العراق يجمع بين الحالين. فقد تحول في الثمانينات والتسعينات إلى مجتمع حضري فائق الكثافة (72 في المئة سكان حواضر) وانهارت فيه الدولة المركزية".
اقرأ أيضا: سيناريوهات الخروج من "جمهورية الفوضى" العراقية
وفي توصيفه للمستوى الطبقي للمافيات الصاعدة، يقول عبد الجبار: "جل الأثرياء الجدد كانوا في قاع المجتمع. وهم لا ينتمون إلى النخبة السياسية- البيروقراطية الجديدة المتزايدة ثراء، بل ينتمون إلى فئات مجهولة، تدعي لنفسها النجاح في الأعمال التجارية والمصرفية (لا أحد يعرف ما هي هذه الأعمال) وما شاكل. تخرج المافيات العراقية من عالمها السري إلى عالم العلانية الشرعية لتوطد أركان الثروة المستقطعة من المجتمع، وهي تحقق بذلك إعادة توزيع قسري للثروة الاجتماعية، وتقلب عالم طبقة رجال الأعمال عاليه سافله".