لا ينتابني شكّ في أن القارئ العربي يجهل الكثير عن الأدب الجزائري المكتوب بالأمازيغية، ليس بسبب قلة الترجمة من هذه اللغة العريقة إلى العربية فحسب، بل لأن المثقف الجزائري على اختلاف انتماءاته لم يتصالح بعد مع هويته التي تشكل الثقافة الأمازيغية جزءا غير يسير منها، بسبب تراكمات تاريخية وسياسية عرفها المجتمع الجزائري، جعلت من المسألة البربرية محظورا لا يرغب أحد في الاقتراب منه، وهو ما يظهر بجلاء في الرواية الجزائرية المكتوبة بالعربية، والتي وإن انفتحت على “الآخر” بفضل أعمال أدبية متميزة، إلا أنها امتنعت رهبة أو رغبة عن تناول المسألة البربرية بكل أبعادها، وهذا رغم جرأتها في تناول التابوهات السياسية والدينية والاجتماعية الأخرى.
عدم تصالح المثقف الجزائري (المُعرّب على وجه الخصوص) مع هويته في شقّها البربري، جعله غير مبال بالخوض فيها تلميحا أو تصريحا، وبالتالي لا يجد ضرورة في تعريف الآخرين بها، وهو غير مدرك بأن لامبالاته وإنكاره لهذا الشقّ المهم من هويته قد يتسبب- كما تسبب سابقا- في إنتاج العنف المميز للتاريخ الجزائري الحديث، ذلك أن الهوية، كما يقول أمين معلوف في "الهويات القاتلة"، لا تتجزأ ولا تتوزع أنصافا أو أثلاثا أو على مناطق منفصلة، فهي لا تتحقق مرة واحدة بل تتشكل وتتحول مع مرور الوقت.
ارتباط مولود معمري بالقضية البربرية، وإصراره على ضرورة اعتراف السلطة الجزائرية بالثقافة الأمازيغية كعنصر رئيس في الهوية الجزائرية، لم يمنعه من تبجيل اللغة العربية والتصريح برغبته في تعلمها رغم فشله في ذلك، وارتباطه بصداقات عربية مهمة، على غرار علاقته الفكرية بعميد الأدب العربي طه حسين الذي تناول ببحث نقدي مهم روايته "الربوة المنسية"
ولعل هذا ما جعل كاتبا مرموقا مثل أمين الزاوي لا يتوانى عن اتهام المثقف الجزائري المعرّب بالتعصب والحقد تجاه كل ما هو أمازيغي، حقد وعنصرية لا يستطيع إظهارهما في العلن، بسبب عدم قدرته على مواجهة السلطة التي دسترت اللغة الأمازيغية واعترفت بها لغة رسمية ووطنية بجانب العربية، إثر عقود من النضال والأحداث الدموية التي بدأت بما سُمي "الربيع الأمازيغي" عام 1980 وانتهت بالاعتراف بالأمازيغية ضمن عناصر الهوية الوطنية، ومرورا بـ"ربيع 2001" الأسود الذي خلّف مئات القتلى المسالمين في صفوف مناضلي المسألة الأمازيغية التي ينسى كثيرون أن شعلة انطلاقها حملها كاتب من وزن مولود معمري صاحب "الربوة المنسية"، و"العفيون والعصا"، وأعمال أخرى كتبها بالفرنسية جعلته في طليعة الكتاب الفرنكفونيين، وهذا إثر منع السلطة الجزائرية لمحاضرة له تتناول شعر الشاعر القبائلي الشهير "سي مْحَنْد أومْحَنْد" عام 1980، ليستمر حتى وفاته في نضاله من أجل الثقافة الأمازيغية من خلال بحوثه ومؤلفاته ومقالاته المنشورة في مجلة "أوال" (الكلمة) التي عنيت بالقضايا الثقافية الأمازيغية، أما مشروعه الأكبر والذي سمح لمناضلي المسألة البربرية بالمطالبة بدسترة اللغة الأمازيغية، فقد كان مؤلَفه الشهير "تاجرومت" أي القواعد، والذي يعد أول كتاب "نحو" للغة الأمازيغية في التاريخ.
ارتباط مولود معمري بالقضية البربرية، وإصراره على ضرورة اعتراف السلطة الجزائرية بالثقافة الأمازيغية كعنصر رئيس في الهوية الجزائرية، لم يمنعه من تبجيل اللغة العربية والتصريح برغبته في تعلمها رغم فشله في ذلك، وارتباطه بصداقات عربية مهمة، على غرار علاقته الفكرية بعميد الأدب العربي طه حسين الذي تناول ببحث نقدي مهم روايته "الربوة المنسية"، نشر في كتابه "نقد وإصلاح" جاء فيه أنه "دراسة اجتماعية عميقة دقيقة تصور أهل هذه الربوة في عزلتهم، وقد فرغوا لأنفسهم واعتمدوا عليها، فلم يكادوا يذكرون أحدا غيرهم من الناس، وهم يجهلون ما وراء الجبال التي تقوم دونهم، لا يعرفون إلا حين يضطرون إلى ذلك اضطرارا وما أقل ما يضطرون إليه، وهم لا يشعرون بالحكومة إلا حين تجبي منهم الضرائب على ما تثمر لهم الأرض وما يكسبون من المال".
يعد مولود معمري نموذجا رائعا للجزائري المتصالح مع هويته ببعديها العربي والأمازيغي، والمؤمن بأن اللغة ليست في الحقيقة إلا وسيلة تعبير عن الهوية الحقيقية التي هي- كما يقول درويش- ما نورِّث وليس ما نرِث، وما نخترع وليس ما نتذكر.