الأتراك ومعاهدة لوزان

الأتراك ومعاهدة لوزان

بعد مرور قرن على معاهدة لوزان، يرى أتراك اليوم الحقيقة، وخصوصاالمثقفين منهم والأدباء والكُتّاب، عبر شاشات برامج التلفزة وأعمدة الصحف الرسمية. يتأملون الصورة بعد مئة عام ويجدونها صورة كاملة ومختلفة، ويكتبون بروح عالية، مباركين معاهدة لوزان، إذ لا يوجد في السياسة، الخارجية بالتحديد، شيء أبدي. فعلى الرغم من الفترات العصيبة التي مرّت ببلادهم، يرون اليوم أن المعاهدة كانت وسيلة ممتازة لتحديد حدود بلادهم بعد انهيار أمبراطوريتهم الأسطورية.

كانت تلك أوقاتا عصيبة، خسر الأتراك فيها حروبا وأراضي بعد صراع مع العالم، لكنها انتهت بجمهورية تركيا، وهذا ما يجعل العديد من المعلقين الأتراك يعتبرون أن الحدود الحالية لبلادهم هي انتصار يُحسب لبلادهم بعد هزيمة كبرى، بل ويباركون النص القانوني في معاهدة لوزان الذي وثّق جمهوريتهم، على الرغم من أن أجدادهم لم يستوعبوا في ذلك الوقت، كيف أنهم، وهم بناة التاريخ والجغرافيا لمئات السنين، يخرجون من التاريخ السياسي، ويُطرَدون من ميدانه ويُبعَدون عن أوروبا.

لم يكن سهلا أيضا على الأتراك أن تعتبر أوروبا معاهدة لوزان انتصارا لها ولحلفائها، بعد تنازل تركيا عن أراضيها. مع ذلك فثمة من يرى أن تركيا أو الجيش التركي هو الذي انتصر في معاهدة لوزان 1923، لا بعتاده وسلاحه في ذلك الوقت، إنما بمقاومة مصطفى كمال أتاتورك من خلال قدرته على إلغاء تنازلات أخرى على الورق، وتوقيعه، ومن ثم إعلانه ولادة تركيا الجديدة. إذا، سمحت المعاهدة للمقاومة الوطنية التركية بقيادة مصطفى كمال أتارتورك بالتوقيع، وهذا في رأيهم يُعدّ انتصارا.

والانتصار، في طبيعة الحال ممكن، فالتاريخ لا يعرف الثبات، وبمرور الزمن تختلف النظرة والرؤية بين خاسر ورابح، فلا شيء يبقى على حاله، على الرغم من الفترات العصيبة التي مرت بها أمبراطورية كانت تضم العرب والغرب والشرق، فلم يكن سهلا أبدا بعد رسم الحدود التركية - اليونانية، أن يضطر مليون مواطن من أصحاب الأصول اليونانية إلى مغادرة أراضي أجدادهم ليستقروا في اليونان، وفي المقابل قام نصف مليون تركي في اليونان برحلته في الاتجاه المعاكس، وكأنها نهاية العصر "الهيليني" في آسيا الصغرى.

ثمة من يرى أن تركيا أو الجيش التركي هو الذي انتصر في معاهدة لوزان 1923، لا بعتاده وسلاحه في ذلك الوقت، إنما بمقاومة مصطفى كمال أتاتورك من خلال قدرته على إلغاء تنازلات أخرى على الورق ومن ثم إعلانه ولادة تركيا الجديدة

بلا شك كانت فترة عصيبة، فالأطراف المتفقون في معاهدة لوزان جعلوا الأتراك يعترفون بخسائر الأمبراطورية، من بلاد ما بين النهرين وجزر بحر ايجة، وبالتخلي عن المطالبة باستقلال كردستان وأرمينيا، والموافقة على تبادل السكان بين اليونان وتركيا.

بل فترة عصيبة، لتعرض الموقّعين الأتراك في المعاهدة، إلى انتقادات شديدة، لتنازلهم عن الكثير من الأراضي للغربيين، وأنهم وعدوا سرا الغرب بجعل تركيا غربية على حساب هويتها التركية والإسلامية، وكان المسلم التركي يعتبر لوزان هزيمة وليس انتصارا، ومثله الماركسي التركي الذي انتقد لوزان بسبب تخليها عن الأرمن والأكراد، علما أن هؤلاء كانوا من الخاسرين في لوزان، بعدما وجد الأكراد أراضيهم مقسمة بين أربع دول.

هناك من الشعب التركي من يرى أن ثمة في معاهدة لوزان فقرات سرية تمنع تركيا من استغلال ثرواتها من باطن الأرض، لتمتد الفترات العصيبة إلى فترة زمنية ليست بقصيرة. لكن نظرة تركيا الحالية مختلفة إلى هذه المعاهدة التي تراها شبيهة بالمعاهدات قبلها خاصة في القرن التاسع عشر، وأن من المهم التوقف عن تداول نظريات المؤامرة. ذلك أن خسارة الأراضي شرقا وغربا، كان يمكن أن تهدّد وجود تركيا الجديدة، إلا أنه وعلى الرغم من كل الصعاب الماضية، يشعر الأتراك اليوم بالقوة والانتصار وبجدوى تلك المعاهدة.

font change