أثار تمرد مجموعة "فاغنر" الروسية (يونيو/حزيران)، وهي شركة خاصة للخدمات العسكرية (تأسست عام 2014)، الانتباه إلى هذا النوع من التنظيمات اللادولتية، فيما يتعلق بالغرض منها وجدواها وأثرها على النظام الذي أنشأها أو سمح بإنشائها، وضمن ذلك مسألة احتكار الدولة لجهاز القوة الأمنية والعسكرية.
ولئن تم سريعا وأد تمرد تلك المجموعة، التي هددت النظام وتحدت الجيش في دولة كبيرة بحجم روسيا، بطريقة ناعمة، فإن جسما شبيها بها مثل "قوات الدعم السريع" في السودان (تأسست من ميليشيا "الجنجويد" عام 2013)، بموافقة من نظام الرئيس (المخلوع) عمر حسن البشير، لوأد تمردات قبلية في دارفور، ما زالت هذه الميليشيا تقاتل الجيش السوداني، منذ عدة أشهر (أبريل/نيسان)، بما يهدد وحدة السودان وسيادته وسلامته.
والحال أن تلك الظاهرة ليست جديدة لدى الأنظمة الشمولية، ومثلا أسس حزب "البعث"، منذ استلامه السلطة في سوريا، في انقلاب عسكري (مارس/أذار 1963)، ميليشيا اسمها "الحرس القومي"، لترسيخ حكمه. وفيما بعد قام الرئيس السوري حافظ الأسد (مطلع السبعينات) بتشكيل فرق عسكرية موازية للجيش، أهمها "سرايا الدفاع"، التي أوكل قيادتها لأخيه رفعت (اليوم ثمة فرق عسكرية عديدة مثلها)، إلى درجة مكنت هذا الأخير، وقتها، من تشكيل مركز قوة كبير، مواز لمركز الرئيس، إلى درجة أنه طمح للحلول محله، مستغلا فرصة مرضه (أواخر 1983)، من دون أن ينجح في ذلك، رغم أنها شكلت هزة كبيرة للنظام في حينه.
تلك الظاهرة ليست جديدة لدى الأنظمة الشمولية، ومثلا أسس حزب "البعث"، منذ استلامه السلطة في سوريا، في انقلاب عسكري (مارس/أذار 1963)، ميليشيا اسمها "الحرس القومي"، لترسيخ حكمه
بيد أن ظاهرة "الحرس الثوري" في إيران (تأسس 1979)، هي الأقوى، والأكثر تأثيرا، على صعيد حماية النظام السائد، وتعزيز نفوذه في الإقليم، إذ بات لهذا التشكيل استطالات إقليمية، مثل حزب الله في لبنان، والحوثيين في اليمن، وفصائل "الحشد الشعبي" المتعددة في العراق، وربما تنضوي حركة "الجهاد الإسلامي" في فلسطين في الإطار ذاته بحدود معينة.
الملاحظة هنا أن كل تلك التشكيلات نشأت من داخل النظام/السلطة، وكجيش مواز، لحمايته من التهديدات الداخلية من الحراكات الشعبية أو من أي محاولة للانقلاب من قبل الجيش وفقا للتجارب السابقة (في سوريا والعراق واليمن والسودان وتركيا). وأيضا، لاستخدام تلك القوات خارج حدود الدولة، لتعظيم نفوذ النظام المعني إقليميا ودوليا، وتجنبه أي مسؤولية سياسية أو أو قانونية عن الأعمال التي ترتكبها تلك القوات، في الدول والمجتمعات الأخرى.
بديهي أن هناك فروقا بين التشكيلات المذكورة. فالفرق العسكرية السورية الخاصة، الموازية للجيش، هي لحماية النظام، وهذا ينطبق على مهمة "قوات الدعم السريع" السودانية في عهد البشير. ولكن قوات "فاغنر" الروسية نشأت للقيام بمهام خارج حدود روسيا، في سوريا وليبيا والسودان وعدد من الدول الأفريقية، ثم في بيلاروسيا وأوكرانيا مؤخرا. وإذ تضطلع قوات "الحرس الثوري" في إيران بمهمة حماية النظام في الداخل، فإن دورها الأكبر يتركز في الخارج، بإسهامها في تعزيز نفوذ إيران من طهران إلى لبنان، مع سوريا والعراق واليمن، مع نجاحها في بناء استطالات محلية في تلك الدول، كما أوضحنا.
بديهي أن هناك فروقا بين التشكيلات المذكورة. فالفرق العسكرية السورية الخاصة، الموازية للجيش، هي لحماية النظام، وهذا ينطبق على مهمة "قوات الدعم السريع" السودانية في عهد البشير. ولكن قوات "فاغنر" الروسية نشأت للقيام بمهام خارج حدود روسيا، في سوريا وليبيا والسودان وعدد من الدول الأفريقية، ثم في بيلاروسيا وأوكرانيا مؤخرا
أيضا، ثمة فرق بين هذا النوع من التنظيمات، والمنظمات اللادولتية، التي نشأت كحركات سياسية، ضد سلطة معينة، أو كحركات تحرر وطني، تتوسل الكفاح المسلح، مع ذلك ثمة منها ما يعتبر امتدادا للتنظيمات الأولى، أي كامتداد لنفوذ دولة معينة (إيران مثلا)، وكفرع للحرس الثوري الإيراني، وهو ما ينطبق على حزب الله في لبنان، وجماعات "الحشد الشعبي" في العراق، إذ تتغلب الوظيفة الإقليمية على الوظيفة المحلية، أو تشتغل لصالح أجندة إقليمية بدل أن تشتغل وفق أجندة وطنية، ما ينطبق، أيضا، على بعض التشكيلات التي تشتغل كذراع إقليمية ووظيفية للنظام السوري في لبنان وفلسطين مثلا.
لكن ما فعله يفغيني بريغوجين رئيس شركة "فاغنر"، الملقب بطباخ بوتين، ومحمد حمدان دقلو (حميدتي)، قائد قوات الدعم السريع السودانية، وقبلهما رفعت الأسد، سلط الانتباه على إمكانية مزاحمة الشركة أو التنظيم للدولة الأم، ولجيشها، أو تشكيله رقما صعبا أو وازنا فيها، وهي حالة فاغنر، بعد محاولة التمرد الفاشلة تلك، إذ لم يصل الأمر بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين حد الإطاحة ببريغوجين رغم تمرده على الدولة، وتشكيكه بالجيش الروسي. بل إن الرئيس بوتين الذي أكد عدم وجود وضع قانوني لفاغنر، إذ القانون الروسي لا يسمح بإنشاء شركات عسكرية خاصة، ناقض نفسه باعترافه (27/6/2023) بأن الحكومة الروسية مولت "فاغنر"، ومثلا فهي قدمت لها "86 مليار روبل (مليار دولار) من مايو/أيار 2022 إلى مايو/أيار 2023، وأيضا فإن كل أسلحة وذخيرة "فاغنر" من مخازن وزارة الدفاع الروسية"، زد على ذلك أن السلطات الروسية كانت سمحت لشركة "فاغنر" بضم مجرمين جنائيين، محكومين في السجون الروسية، إلى قواتها العسكرية، مقابل المشاركة في القتال في أوكرانيا.
وفي المقابل فإن القتال ما زال مندلعا في السودان، في كل أنحاء البلد، مع وجود جيشين يتقاتلان بكل أنواع الأسلحة، الأمر الذي نجم عنه تشريد أكثر من ثلاثة ملايين من السودانيين، ومصرع الألوف، وتدمير عمار مدن وبني تحتية.
ما فعله يفغيني بريغوجين رئيس شركة "فاغنر"، الملقب بطباخ بوتين، ومحمد حمدان دقلو (حميدتي)، قائد قوات الدعم السريع السودانية، وقبلهما رفعت الأسد، سلط الانتباه على إمكانية مزاحمة الشركة أو التنظيم للدولة الأم، ولجيشها
أما في سوريا والعراق ولبنان، فما زالت التشكيلات العسكرية الموازية، والميليشياوية، أهم من الجيش النظامي وأقوى، من حيث التسليح والنفوذ والأهلية، إذ باتت أقوى من الدولة، فهي التي تملك القرار في البلد، أكثر من أي طرف آخر، وهي التي تشكل الحكومات، كما حصل ويحصل في لبنان والعراق، في حين أنها في السودان تقاسمت السلطة مع الجيش، بعد إسقاط البشير، إثر ثورة السودانيين (2019)، ثم أخذت البلد إلى الانفجار في الصراع على السلطة بين القوتين العسكريتين، على حساب الشعب السوداني.
والحال أن مشكلة تلك المنظمات تبدو أكثر تعقيدا، وخطورة، إذا كانت تشكل امتدادا لدولة أخرى، وتشتغل كذراع إقليمية لها، وباستنادها لعصبة آيديولوجية وطائفية، وهو حال معظم التشكيلات الميليشياوية المسلحة في العراق ولبنان وسوريا، التي تعتبر بمثابة امتداد للحرس الثوري الإيراني، وفي خدمة أجندة إيران الإقليمية.
في المحصلة، فإن الوحش الذي صنعته بعض الأنظمة السلطوية لم يوفر صانعيه، بحسب التجربة، إذ لا يمكن تعايش سلطتين، دولة وميليشيا، ولا الحديث عن السيادة واحتكار السلطة لدولة ما مع إنشاء منظمات مسلحة لن تلبث حتى تنازع على الموارد والسلطة، آجلا أم عاجلا.