محمود درويش في ذكرى رحيله الخامسة عشر يفتح في نفوس مَنْ عرفه وقرأه جروحا وأسفا على ذلك الرحيل المبكر، في عزّ تحوّلاته. وإنجازاته الشعريّة.
إنّه أوّلا وأخيرا شاعر القضيّة الفلسطينيّة الأكبر، مع احترامنا وتقديرنا لمختلف الشعراء الآخرين.
وإن كان لنا أن نضع حدودا (وإن افتراضيّة) لمراحله الشعريّة البارزة، منذ قصائده التي صاغها في فلسطين، أو التي نشرها في بيروت أو في سواها، نجد أنها تتأرجح بين مرحلتين أساسيتين، لا علاقة لهما لا بالأمكنة، ولا الأحداث، ولا ما قبل مرضه ولا ما بعده.
بمعنى آخر، نَمَت كتابة درويش بشكل أساسي بين خاصيّتين واضحتين، "الشفويّة العفويّة"، المرتبطة تحديدا بشِعره السياسي في فلسطين، المحتلّة، وبين ما نعتبره كتابيّا، بعد ديوانيه المهيمن "الجداريّة"، و"سرير الغريبة"، واستكمالا في معظم ما نشره بعدهما.
فقد كان في فلسطين شاهدا حيّا على احتلال بلده، وكل ما رافق ذلك من عنف، ومن تهجير، ومن مقاومة، فقد عايش تلك المرحلة بحسّه السياسي، وبوعيه الحاد وبجروحه، ومعاناته. كان وجها لوجه أمام مأساة وطنه، بفصولها التراجيديّة. فكان الشعر يتفجّر بكل عفويّته، وعنفه، وقوّته، في ما يعيشه، ويتابعه ويتعرّض له.
فموهبته الشِّعريّة تفجّرت، بين الحدث والحدث. بين الموت والخوف. بين المقاومة والمواجهة؛ طلع شعره من عذابات شعبه، متدفّقا، مباشرا، عاصفا، محرّكا، تجسّد في الدواوين والقصائد التي نشرها، والتي جعلت منه (ومن الشعراء الفلسطينيّين الآخرين)، وسيلة للمقاومة؛ كمثل "أوراق الزيتون" و"العصافير تموت في الجليل".
بات درويش محكوما بقضيّته، وبمصائر ناسه، حيث، ربما، لم يعد متّسع لذاتيّة منفردة، تبحث عن أناقة في الصوغ، أو نحت في جسد القصيدة، أو تأويلات رمزيّة مركّبة
إنّها المرحلة الصاخبة، قمّة الصراع بالكلمة الشعريّة مع الاحتلال، وقمّة لقائه مع الجمهور الفلسطيني، ومن ثمَّ العربي والعالمي، وهو لقاء تبادلي، تشارك فيه الجمهور كتابه قصائد درويش. أو بالأحرى كتب الجمهور قصيدته منه وإليه.
فهو بات محكوما بقضيّته، وبمصائر ناسه، حيث، ربما، لم يعد متّسع لذاتيّة منفردة، تبحث عن أناقة في الصوغ، أو نحت في جسد القصيدة، أو تأويلات رمزيّة مركّبة. إنّها طازجة من الجمهور وإلى الجمهور عبر محمود درويش. فقد ضاقت الأمكنة التعبيريّة بحيث لم تعد تتّسع لجماليّات تحقّق في القصيدة، أو اختراقات في الحداثة.
بعد خروجه من وطنه ثم مرحلة بيروت التي استقبلته استقبال الشاهد والمقاوم والشاعر، واستمرت هذه المرحلة بلغتها القريبة، في كتبه، وأمسياته، كانت القضيّة الفلسطينيّة ما زالت في توهّجها الشعبي وغير الشعبي، وما زال محمود درويش صداها الكبير في العالم العربي وأبعد منه: لهذا بقيت القصيدة في مطارحها الأولى (مع تعديلات جزئيّة هنا وهناك) يحسّها القارئ في تضاعيف قصائده (كأنّها البذور التي ستنبت في فصل آخر)؛ بمعنى آخر بقيت القصيدة محتفظة بدورها الجماهيري، وبلغتها الشعبيّة.
أي كان محمود درويش (في بيروت)، ومن خلال موقعه، متمسكا بدور الشِّعر كأداة نضاليّة، وغير معني كثيرا، بمسائل الحداثة، وتفجير اللغة، وقصيدة النثر وقصيدة البياض، ورمزيّة مالرمه، أو سورياليّة بريتون (من خلال من يمثلها في لبنان والعالم العربي) كأنّما كان هناك شبه غربة بين إنجازات القصائد الحديثة بمعناها المركّب، وبينه. فالذاتيّة تصنع وحدها الشِّعر في زمن الأزمات الكبيرة، كأنّها محاولات تجريديّة لعالم تجريدي، غير واقعي؛ بل ومن خارج لزوميّات التاريخ.
فالألاعيب الشعريّة المجانيّة نقيض ما يلتزمه محمود درويش. ولهذا نجده في منتصف السبعينات ومطلع الثمانينات يعبّر عن هذا الاتجاه بشكل عنيف، عندما كتب في جريدة "السفير" عام 1982 مقالة عنوانها "أنقذونا من هذا الشعر"، ويقصد ما أشرنا إليه من اغتماض وتجريبيّة وقصيدة بياض ورمزيّة، وقد أشار من دون تسمية إلى بعض الشعراء ومنهم كاتب هذه السطور، فكانت ردود عنيفة على مقالة درويش، وضع حدّا لها الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982.
نقول ذلك، ولا يمكن أن ننفي أنّ درويش برغم "غضبه" من هذه "الحداثة" المتغرّبة، كان شيئا فشيئا، على تماس بعيد، كأنّ تراكمات لا واعية بدأت تهتز في داخله: وفي المقابل كان بعض "شعراء الحداثة" ينظرون إليه باعتباره "شاعر مرحلة، شاعر قضيّة بلُغة شعريّة خطابيّة وسياسيّة لا أكثر ولا أقل!".
لكن، وفي لحظة خارقة، وبعد عدّة سنوات، أصدر كتابين "الجداريّة"، و"سرير الغريبة"... أنا شخصيّا عندما قرأتهما ذُهلت! أقرأ محمود درويش أم آخر؟ نعم! درويش نفسه بات في مقلب آخر. قطع في مدّة محدّدة مراحل تجاوز فيها نفسه، أنّه في صميم حداثة أخرى تشبهه، طالعة منه، جديدة لكن حداثة بلا "حداثيّة"، ولا شعارات، ولا نظريّات ولا مدارس، لا مالرمه (برمزيّته)، ولا سان جون برس، بملحميّته (أدونيس) ولا سورياليّة أُنسي الحاج (قدرة بريتون)، ولا اليساريّة بتابوهاتها، كأنّها الحداثة المختلفة عن حداثة النظريّات بشعاراتها، كل هذا غائب عن أولويّاته. كأنّه يخترق وحده حداثته التي بناها ورعاها منذ صباه وحتى تلك اللحظة المتفجّرة، ورافقها اطلاعه على الشعر العالمي، واختزان للتجارب والآلام.
قطع في مدّة محدّدة مراحل تجاوز فيها نفسه، أنّه في صميم حداثة أخرى تشبهه، طالعة منه، جديدة لكن حداثة بلا "حداثيّة"، ولا شعارات، ولا نظريّات ولا مدارس
والمهم أنه لم يحقّق تحولا ما ويتوقف. بل، تزاحمت التحوّلات في الدواوين والكتب التي أصدرها، تجاوز فيها كل مقولات الحداثة المعلّبة كمثل "كزهر اللوز أو أبعد"، أو في "حضرة الغياب"، "لماذا تركت الحصان بعيدا" و"لا تعتذر عمّا فعلت".
كأنّما اختلط الشِّعر بالموزون وبالنثر. شعريّة في النثر تزاحم شعريّة الموزون، فاستمرّت مرحلة، ولا يتوقف الشِّعر عند محمود في تقسيمات النثر أو الشِّعر الموزون : تلاقحا، وصاغ منهما نصوصا نثريّة عالية الشِّعر... من دون أن يكتب قصيدة النثر: وهنا بالذات انفتح درويش على شِعر كان يرفضه، أي قصيدة النثر، انفتح على شعرائها، وعلى مختلف اتجاهاته. خرج من الأحاديّة الشعريّة، إلى التعدديّة غير المحدودة.
ونتذكر في "حضرة الغياب"، بالتماعات تأمّلية، ونثريات مصفّاة، طازجة، مغسولة، موحية؛ ونضارة في الصوغ السرديّ أو التشكيلي.
إنه جزء من مسار محمود درويش، نتذكّره بعد خمسة عشر عاما على رحيله، كظاهرة شعريّة فريدة في تحوّلاتها الإبداعيّة، وفي مساراتها النضاليّة.
بعد 15 عاما من رحيله ما زال محمود ذا الرمزَين الكبيرَين "رمز الشِّعر المقاوم" و"رمز الحداثة غير المعلّبة"، تماما كشعراء عالميّين كبار ملتزمين أو أيديولوجيّين أو مقاومين أمثال لوركا، وماتشادو، وبابلو نيرودا، وبول إيلويار، وأراغون، وحتى رينه شار؛ كتبوا الحب والطبيعة والأرض والقصيدة السياسيّة.
وتجدر الإشارة إلى أن محمود درويش بعدما أصدر دواوين وكُتبا نثريّة وشِعريّة تعجّ بالشِّعر، وتعبّر عن خلقه، ومشاعره الخاصّة، وعلاقاته، وهواجسه الفرديّة، والإنسانيّة، تعرّض لحملة موتورة، اتُّهم بها، بالتخلي عن القضيّة الفلسطينيّة، وبالاستسلام، وحتى خيانة القضيّة، من مصادر متطرّفة غير مدنيّة تزيد شعريّة تاريخه ونضاله، وموقعه الطليعي، وهواجسه الإنسانيّة.