الفضول على أشدّه لمشاهدة فيلم "باربي"، خاصة بعد تأجيل طرح عرضه في دور السينما السعودية، فما أسباب هذه اللهفة، وما الرسالة التي يمكن أن ينقلها الفيلم؟ وكيف قدمت باربي "المرأة الدمية" نفسها على مرّ العقود؟
لطالما كانت باربي حلما ورديا للعديد من الفتيات، ولكن هذا لا يعني أنها كانت بمعزل عن الانتقادات. فكثر يرون فيها قدوة غير مثالية، استخدمها صنّاعها لتكريس "هوية نسوية" مضلّلة، واتُهمت بتعزيز اضطراب الأكل من خلال ترويج فكرة غير واقعية عن صورة جسد امرأة في مقتبل العمر.
فوفقا لبحث أجراه مستشفى "يونيفرسيتي سنترال هوسبيتال" في هلسنكي في فنلندا، تفتقر باربي إلى نسبة 17 إلى 22 في المئة من دهون الجسم اللازمة للفتاة من أجل أن تمر بفترة البلوغ الطبيعية التي تساعدها على الإنجاب. هذا بالإضافة إلى أنها كانت محور العديد من الخلافات والدعاوى القضائية، وكثيرا ما كان هناك تهكم وسخرية من الدمية ومن أسلوب حياتها الذي يعزز العنصرية والنسوية المتطرفة، بل إن مخاوف تأثيرها على الهوية العربية والإسلامية دفعت إلى محاولات استبدالها في منطقة الشرق الأوسط بدمية اسمها فلة تشبه باربي صُمّمت بحيث تتناسب مع متطلبات هذه الثقافة. وفي إيران صمّمت دمية اسمها سارة وأخرى اسمها دارا بديلا من باربي، مع ذلك لم يكتب لفلة ولا غيرها عمر طويل وظل اللون الوردي ومقاييس جسد باربي هي المهيمنة على العقول والمشاعر، ولا تزال نسبة لا يستهان بها من نساء وبنات الجيل الحالي يرددن أغنية "I am a barby girl" للتماهي مع أيقونة الجمال والسحر والجسد الممشوق بين عدد كبير من السيدات البالغات حول العالم.
يأتي الفيلم المنتظر ليثبت وجود "باربي" من جديد بعدما توارت عن الأضواء لبعض الوقت.
حين ننظر إلى واقع المرأة في السعودية تحديدا، نرى أن المملكة تعيش عصرها الذهبي من خلال حرص الدولة على إظهار المرأة في هويتها النسوية المعتدلة لتقف جنبا إلى جنب الرجل بعيدا من الاحتكار الذكوري، بهدف دفع عجلة التقدم والتغيير الاجتماعي والاقتصادي. مع هذا تظل النداءات المتحيزة تصرخ عاليا لتعيد المرأة إلى المربع الأول، وتدفعها لتحصر نفسها في هوية الأنثى كنوع لا في هوية المرأة كدور. الإشكالية ليست في الرجل فحسب، بل في تصورات المرأة الذهنية حول هويتها: هل تنتمي إلى هوية باربي الوردية والممنوعة غالبا من الصرف والتصرف، أم تشيد لذاتها هوية خاصة معتدلة؟
وكيف تقوم الإعلانات الموجهة بالتدخل غير المباشر في إحياء الحركة النسوية من خلال فيلم "باربي" على سبيل المثال؟
حين ننظر إلى واقع المرأة في السعودية تحديدا، نرى أن المملكة تعيش عصرها الذهبي من خلال حرص الدولة على إظهار المرأة في هويتها النسوية المعتدلة لتقف جنبا إلى جنب الرجل بعيدا من الاحتكار الذكوري
الزخم الإعلامي الذي أحاط ففيلم "باربي"، اعتمد على سلسلة من "الفخاخ" بدأها فريق العمل ليشعل شرارة الحماسة الأولى من خلال ما يسمى "بناء الترقب التدريجي" الذي يقوم على كشف بعض التفاصيل والتحفظ عن بعضها، مما خلق حالة من الفضول العام لاستكشاف ما يتضمنه الفيلم. أما الطريقة الثانية فهي سياسة التحالف وتوقيع الاتفاقات مع أكثر من 100 علامة تجارية (ملابس، عطور، شموع، أطعمة، مشروبات…إلخ) سمح لها باستخدام علامة باربي التجارية في تسويق منتجاتها بالتزامن مع إطلاق الفيلم، مما يغري الجميع في المشاركة حتى لا يقع ضحية الشعور بما يسمى الخوف من فوات الأشياء.
تمثل باربي للكثير من السيدات ممن تجاوزن الأربعين، جزءا من ذكرياتهن القديمة وأحلام طفولتهن ومراهقتهن، وهذه كانت إحدى تلك الحيل الإعلامية القائمة على تحريك جانب الحنين ومداعبة مشاعر المرأة بهذا الحلم الوردي، وبذاكرة الملابس وأسلوب الحياة "المتخيل" الذي تحلم به كل فتاة، إلى درجة أن الشركة المنتجة للفيلم حولت تلك الأحلام إلى حقيقة من خلال تصميم بناء "المنزل الوردي" في ولاية كاليفورنيا، الذي ضمّ كل عالم باربي البراق. كما استثمرت التكنولوجيا عبر توفير فلاتر على منصات التواصل الاجتماعي تداعب الخيالات والمشاعر، فالهوية البصرية واللون الوردي البراق جديران بإثارة الانتباه ومداعبة الذاكرة الحسية والعاطفية.
خطورة الأمر تتأتى من أن ما قد يبدو مجرد تسلية، قد يساهم في بناء ذهنية جديدة لتصورات المرأة عن دورها الاجتماعي وهويتها وعلاقتها بالرجل. كل هذا سيتضح بعد عرض الفيلم ومعرفة كيفية استقباله.
ما يمكن قوله حاليا هو أنه، وبصرف النظر عن رسالة "باربي" وتأثيره سلبا أم إيجابا، لم يعد مقبولا عزل المرأة عن الانخراط في القضايا التي تهمها وإبعادها عن صناعة الثقافة، فهذه القولبة والتنميط المعياري فيها، رسختهما الثقافة الذكورية عندما كرست صورة الرجل كمحب للمعرفة وللحكمة، بينما تزاح المرأة من هذا العالم لتُحصر في قفص وردي.
لا بد من التحرر من أغلال الماضي، سواء تلك المتعلقة بالنسوية المتطرفة أو الذكورية المفرطة، وإعادة الاعتبار إلى مساهمات المرأة خارج الصورة النمطية دون تعظيم مفرط ولا تشييء يحبس المرأة في حدود الجسد، ولا بدّ من تلوين الفضاء الاجتماعي باللونين الأزرق والوردي معا لتنتقل النساء الفاعلات إلى مربع الممكن ويجد كل من النساء والرجال مقاما يحررهم من ربقة البطريركيات العتيقة التي لم تؤخّر دور النساء فقط، بل تفسد العقول والمجتمعات العربية على حدّ سواء.