من يخاف من باربي؟

من يخاف من باربي؟

بدا لافتا في بيان وزير الثقافة اللبناني محمد وسام المرتضى، حول مسوغات منع عرض فيلم "باربي"، أنه لم يذكر شيئا عن كيفية التوصل إلى القرار. اكتفى باستخدام عبارة "بعد التدقيق تبيّن أن فيلم باربي...إلخ"، لكننا لا نعرف ما الذي يعنيه هذا "التدقيق". هل يعني أن ثمة لجنة رقابية شاهدت الفيلم وخرجت بتوصية معينة، أم أن الوزير نفسه كان هذا الرقيب؟ في أية حال، لم يستخدم البيان كلمة "مشاهدة"، وذلك تجنبا لتناقض جوهري في حال استخدمت: لماذا يحقّ لك استخلاص حكم بعد المشاهدة في حين لا يحقّ لعموم الناس ذلك؟

أما قرار المنع في الكويت فجاء عن طريق "لجنة رقابة الأفلام السينمائية" التابعة لوزارة الإعلام، فلم يشر بدوره إلى مشاهدة الفيلم، بل ذكر البيان الصادر عن رئيس اللجنة، أن اللجنة وقبل إجازة عرض فيلم "تطلب حذف بعض المشاهد المخلة"، أما في حالة "باربي" فقد جاء المنع شاملا: "أما إذا كان (الفيلم) يحمل أفكارا لتشجيع سلوك غير مقبول ورسالة من شأنها تشويه القيم السائدة للمجتمع، عندها يتم اتخاذ قرار منعه تماما... هذا ينطبق على أي فيلم يتضمن رؤية مختلفة للقيم تتعارض مع رؤية مجتمعنا وعاداتنا"، أيّ أنه في الجوهر استخدم الذرائع نفسها التي استخدمها الوزير اللبناني، إلا أنه آثر التعابير العامّة الفضفاضة، في حين ذهب المرتضى إلى التحديد، قائلا إن "الفيلم يتعارض مع القيم الأخلاقية والإيمانية.. ويروج للشذوذ.. ورفض وصاية الأب".

إن ما أقلق الجهتين المانعتين في البلدين، على ما يبدو، ليست الدمية "باربي" ولا رفيقاتها "الباربيات" الأخريات في الفيلم. ما أزعجهما بالفعل، سواء شاهدتا الفيلم أم لا، هو الطريقة التي يظهر بها الرجل (كين) في الفيلم. فهو "رجل" تابع لباربي، وقد ولد أساسا ليكون تابعا لها، وهو يقول ذلك صراحة في أحد مشاهد الفيلم الأخيرة، إنه لا يستطيع التعرّف على نفسه إلا بوصفه تابعا لها: "يقال باربي وكين.. ولا يقال كين وباربي" كما تقول الشخصية. وهو ما لا يصحّ في "ثقافة" و"عادات وتقاليد" و"قيم"، تفسّر "الرجال قوامون على النساء" وفق منطق التفوق والتبعية، أما أن يمضي الغرب المنحلّ، كما يراه بعضنا، إلى درجة تخيّل عالم تحكمه النساء، ويؤدّي فيه الرجال الدور الذي يفترض أن تؤديه النساء في العالم الحقيقي، فهو أمر مرفوض تماما.

ما أزعج الرقيب في لبنان والكويت هو الطريقة التي يظهر بها الرجل (كين) في الفيلم. فهو "رجل" تابع لباربي، وقد ولد أساسا ليكون تابعا لها وليس "قوّاما" عليها

المفارقة أن هذا المعنى لم يوضحه البيان الكويتي، بقدر ما بيّنه صراحة البيان اللبناني، مستخدما عبارة "رفض وصاية الأب" ضمن المآخذ على الفيلم التي استوجبت حظره. ومن يتأمّل قليلا العبارة، فلن يعود مستغربا كثيرا المسألة. فلبنان بلد ذكوري بالكامل. جميع طوائفه وأحزابه ومرجعياته هي من الذكور. وليسوا أيّ ذكور، بل هم الذكور الذكوريون بكلّ معنى الكلمة، "الماتشو"، كما يقال، قادة ميليشيات وحروب لطالما استخدم معظمهم الأسلحة الحقيقية، والمقاتلين الحقيقيين، لا الدمى كما نجد في فيلم "باربي". إنهم الزعماء الذين يلوّحون بأصابعهم، ويهدّدون الخصوم والأعداء بالويل والثبور، ويستعرضون عضلاتهم طوال الوقت ضدّ "كلّ من تسوّل له نفسه...إلخ". إنهم الذكور أنفسهم الذين لم يحرّكوا ساكنا، إن لم يكونوا شركاء فعليين في جميع القضايا المأسوية التي نرى فيها أمهات يحرمن فيها من رؤية أطفالهن، لأن الآباء الذكوريين يتكئون على زعماء طوائف حرصاء على حماية متقضيات ذكوريتهم تلك.

إن هذا الواقع الذي يصفه فيلم "باربي"، أي تبعية الدمية الذكر للدمية الأنثى، لا قوامته عليها، من شأنه، بالنسبة إلى البيانين المانعين، خلخلة المنظومة الاجتماعية، وهو ما يوضحه مجددا البيان الللبناني بصورة صريحة حين يتحدث عن "الشذوذ" و"المثلية الجنسية". لا تمثيل في "باربي" لا من قريب ولا من بعيد، للمثلية الجنسية، لكنّ كلّ الموصوف أعلاه يجعل الرقيب يستنتج أن الأجندة التي يخدمها الفيلم لابدّ أن تكون أجندة المثلية الجنسية. هذه حالة فريدة من نوعها حين تصبح وظيفة الرقيب التفسير والتأويل، ولا يجد نفسه حتى مطالبا بتقديم أيّ دليل ملموس على تأويلاته تلك.

ما يسعى الرقيب إلى حمايته حقا ليس المجتمع، ولا حتى الدولة أو السلطة، بل صورة تلك الدولة أو السلطة. لا يقلق الرقيب على الأجيال، ولا على ذائقة عموم الناس، بل إنه يحرص كلّ الحرص على صورته الذاتية

في ظلّ سهولة الوصول اليوم إلى أيّ منتج ثقافي، بما في ذلك المسلسلات والأفلام (ربما لا يعرف الرقيبان في لبنان والكويت أن معظم المهتمين شاهدوا الفيلم أساسا، وأنه سيضاف إلى مشاهديه بعد المنع غير المهتمين أيضا، مثلما يحدث عند كلّ منع)، فإن ذريعة "حماية المجتمع" و"صون القيم والأخلاق"، أصبحت بلا أيّ معنى. ما يسعى الرقيب إلى حمايته حقا ليس المجتمع، ولا حتى الدولة أو السلطة، بل صورة تلك الدولة أو السلطة. لا يقلق الرقيب على الأجيال، ولا على وعي الشباب، ولا على ذائقة عموم الناس، بل إنه يخاف، ويحرص كلّ الحرص على صورته الذاتية، ويخشى أن يفسّر تصريحه بعرض "باربي" من قبل "من تسوّل لهم أنفسهم" على أنه قبول بتنازلات يفترض أن الفيلم يدعو إليها. وفي حين أن قرار الرقيب الكويتي يأتي مدفوعا على الأرجح بضغط من قوى دينية محافظة، فإن الرقيب اللبناني (الذي استخدم كلمة "إيمانية" بدلا من "دينية" حتى تعمّ الفائدة) يبدو مدفوعا بحسّ ذكوري خالص يحكم المجتمع اللبناني منذ عقود وعقود.

كان يوم العاشر من مايو/ أيار 1933، يوما مشهودا في برلين. إنه اليوم الذي وقف فيه "وزير التنوير العمومي والبروباغندا" (الاسم الرسمي لوزير الإعلام) جوزيف غوبلز، وخطب بأربعين ألفا من طلبة الجامعات، داعيا إياهم إلى المشاركة في المحرقة الجماعية للكتب "رجل المستقبل في ألمانيا ليس رجل الكتب، بل رجل الشخصية"، قال لأولئك الشباب الذين اندفعوا وأحرقوا ذلك اليوم 25 ألف كتاب من أعمال أينشتاين وفرويد وهمينغواي والمئات غيرهم. كان الوزير الألماني النازي يتوهّم على الأقل بناء إمبراطورية جديدة متفوّقة وقادرة على أن تحكم العالم. سوف يكتشف أولئك الشباب بعد سنوات قليلة أنهم، بحرقهم تلك الكتب، كانوا عمليا يحرقون مستقبلهم. أما الوزير اللبناني فلا يحتاج إلى القلق بهذا الخصوص، بعد أن أحرق هو ومن يمثلهم بالفعل، مستقبل الأجيال الذين يدّعي قرار المنع "حمايتهم".

font change