يتحسّر عادة الشعراء العرب على أنهم لا يلقون الاهتمام نفسه الذي تحصل عليه راقصة أو مغنّية، ويعتقدون أن هذا علامة على زمن انحطاط وابتذال لم يعد فيه للأدب والفن الرفيعين قيمة أو تقدير واحترام. هم بذلك، كما يبدو لي، ينحون في اتجاه تعميمي لا توسط فيه، إذ يعتبرون أن كل ما تقدّمه الراقصات من فنٍّ هو بمثابة انحطاط وأقلّ شأنا من الشعر الذي يكتبونه، كما أنّهم يتصوّرون، دون أدنى شك، أن شعرهم في مكانة أرقى وأهم من رقصة أو أغنية.
احتقار أصحاب فنٍّ ما لمشتغلين في فنون أخرى ليس جديداً، لكنّه يبدو بوضوح عند الحديث عن الرقص، والرقص الشرقي منه خاصة. فقد تكرّس هذا الاحتقار في الكثير من الأعمال الفنية، أشهرها مسرحيّة عادل إمام "شاهد ما شفش حاجة" (1976) من إخراج هاني مطاوع، التي تتناول قصّة مقتل الراقصة عنايات في شقة بعمارة كانت تسكن فيها بجوار شقة سرحان عبد البصير (عادل إمام) الذي يُستدعى كشاهد في المحكمة. فهناك عبارات قيلت في المسرحية على لسان سرحان صارت لازمة تتردّد كثيراً، فحين يقول منادي المحكمة إنّه يعيش مع زوجته وأمّه وعمّته وأطفاله السبعة في غرفة واحدة بسبب دخله المالي القليل يردّ عليه سرحان "اتكل على الله واشتغل رقّاصة" وهو قول لا يوحي بالدخل المالي المرتفع للمشتغلة بهذا الفن وإنّما باعتبارها مهنة (منحطّة) ومشبوهة تجلب المال الكثير. وحين يواجه المحقّق (عمر الحريري) سرحان بقوله إنّهم عثروا على منديله في شقّة القتيلة يردّ: "شفت يا حسين، عنايات طلعت رقّاصة وحرامية كمان"، في عبارة واضحة تلازم فعلين سيئين بالنسبة إليه "رقّاصة وحرامية".
أثناء الاستجواب يدور الحديث الآتي:
"-هي كانت بتشتغل إيه؟
-رقّاصة
-في المستشفى
-في كبارية
-قليلة الأدب يعني!".
ولأنها كذلك فهي "دائماً مشغولة، دخلة خرجة، خرجة دخلة، صبح وليل، ليل وصبح". و"متعوّدة دائماً تعمل سهرات في البيت".
المسرحية لا تقدّم قصّة الراقصة كحالة اجتماعية يمكن أن يشوبها الكثير من التداخلات مع شخوص لهم قيم مختلفة وإنّما تُظهرها عنوانا لكل انحطاط اجتماعي وقيمي.
باستثناء بعض الجوانب الإنسانية للراقصات اللواتي يبرزن في بعض مشاهد هذه الأفلام إلا أنها في الغالب تُظهر الراقصة باعتبارها امرأة لعوبا تهب جسدها لمن يدفع أكثر، كما أنّها انتهازية ومدمنة ودليل على تفاهة عامة
في فيلم "الراقصة والطبّال" (1984) من بطولة أحمد زكي ونبيلة عبيد وإخراج أشرف فهمي، يبدو الرقص، كفن متفرّد بذاته، محل استهجان واحتقار في مقابل "التطبيل" الذي يرمز الى الموسيقى ومعه، فقط، يمكن أن يرتفع مستوى مكانة الرقص والراقصة، كما يقول الطبّال المثقف عبده (أحمد زكي) لمباهج (نبيلة عبيد): "أنا عايز أخلّيك رقّاصة محترمة، عايز أرفع مستواك من على المسكّة، وأخلّيكِ تبطِّلي شغل الموالد اللي بوّظ مخِّك وخلاّكِ رخيصة". وهو قول ينطلق من توصيف ثقافي مكرّس عن راقصات "الموالد" و"الكباريهات" باعتبارهن غير محترمات أو نساء سيئات السمعة، دون مراعاة الفرق بين امتهان بعض هؤلاء النسوة لهذا الفن وتقديمه على أكمل وجه في أي فضاء أو مسرح وتلك الراقصات اللواتي صرن متاحات للتداول في سوق سلعي لا حد له. لذا فإنّ الراقصة هي التي تنتصر في نهاية الفيلم على الطبّال ليس لأنّها مؤدّية لجنس من الفنون له تاريخه ومكانته وأهمّيته وإنّما لأنّه صار مرادفاً للانحطاط والتفاهة والفساد الاجتماعي العام.
ولعلّ فيلم "الراقصة والسياسي" (1990) من إخراج سمير سيف وبطولة نبيلة عبيد وصلاح قابيل أكثر واقعية في تصوير حال راقصة في مجتمع تشوبه الكثير من جوانب الانحطاط الذي لا يخلو الفن فيه، متمثلاً في الرقص، من سيئات السياسة والسياسيين الذين على الرغم من علاقتهم الوطيدة مع الراقصة يحاولون أن يتنكّروا لها ويقفون ضد مطمحها في بناء دار للأيتام ولم يستسلموا لطلبها إلا بعد إعلانها أنّها ستنشر مذكراتها الفاضحة لمجمل علاقاتها.
هناك الكثير من الأفلام والمسرحيات، بل والروايات، التي أظهرت الراقصة في صورة مبتذلة للانحطاط الاجتماعي العام وأشهرها أفلام المخرج الغزير الإنتاج حسن الإمام: "شفيقة القبطية" (1963)، "خلي بالك من زوزو" (1972) و"ليال" (1982)، وأفلام حسين فوزي: "أحب الغلط" (1942) و"بلدي وخفة" (1950) و"جنة ونار" (1952)، إضافة إلى فيلم "شارع محمد علي" (1944) للمخرج نيازي مصطفى و"لعبة الست" (1946) لولي الدين سامح و"غرام راقصة" (1950) للمخرج حلمي رفلة و"الرجل الثاني" (1959) لعز الدين ذو الفقار و"إحنا التلامذة" (1959) لعاطف سالم و"الإمبراطور" (1990) لطارق العريان و"الدكتورة منال ترقص" (1991) للمخرج سعيد مرزوق و"الراقصة والشيطان" (1992) للمخرج محمود حنفي وعشرات الأفلام الأخرى.
باستثناء بعض الجوانب الإنسانية للراقصات اللواتي يبرزن في بعض مشاهد هذه الأفلام، إلا أنها في الغالب تُظهر الرّاقصة باعتبارها امرأة لعوبا تهب جسدها لمن يدفع أكثر، كما أنّها انتهازية ومدمنة ودليل على تفاهة عامة، وأقل العبارات التي تقال في وصف المشتغلات في هذه المهنة إنّهن راقصات و"الله أعلم"، بمعنى أن هناك جوانب غير مرئية في حياتهن.
من اللافت أن بعض الراقصات لا يتحرّجن من احتقار مهنتهن، فها هي فيفي عبده التي قال الكاتب أحمد عبد اللطيف في مقال له إنها أنزلت الرقص من "نخبويته" إلى أرض شعبية عامة، تنعت الفنّان محمد عبده بـ"الراقصة" بعدما سمعت له رأياً لم يعجبها في الفنّانة شيرين قائلة في موقعها بالانستغرام، الأسبوع الماضي، إذا كانت هذه المغنية عبارة عن مؤدية، بحسب قول الفنّان، فإنّه بمثابة "رقّاصة"؛ مما أدى إلى غضب محبي الفنّان الشهير واعتذار فيفي في ما بعد بقولها "أنا ما قرأتش الكلام اللي مكتوب على الأغنية، أنا عملت لها شير من التيك توك لمجرد أنها عجبتني فقط لا غير" والسبب كما أوضحت إنّها لم تكمل دراستها ولم تقرأ ما كُتب!
في مراجعة سِيَر الراقصات نجد الكثير من الفنّانات اللواتي امتهنّ هذا الفن وحافظن على مستواه المميّز إضافة إلى سمعتهن الشخصية. فالسورية بديعة مصابني منذ أن أسست فرقة للرقص الشرقي في القاهرة عام 1926 رفضت أن تبدو شبه عارية بملابسها على المسرح، وهي بداية أخرجت هذا الفن من المفاهيم السابقة المرتبطة بـ"العوالم" و"الغازيات"، وهو المنحى الذي مضت فيه تلميذتاها تحيّة كاريوكا وسامية جمال.
من المعتاد أن تظهر معظم الراقصات، في سيرهن، غير منزّهات عن المجتمع الذي يعشن فيه، مثلهن مثل بعض الشعراء الذين يتكسبون من قصائدهم ويغيظهم أن تحصل راقصة، أو مغنية، على أجر يفوق ما يحصلون عليه جميعا
فتلازم الجسد مع ابتذاله أو تسليعه لم يكن واضحاً لدى كاريوكا المعروفة بالتزامها السياسي لليسار وعدم عرض جسدها لمن يدفع، ولهذا تزوّجت سبعة عشر رجلاً، "لأنها كانت ترفض أي علاقة من دون زواج" حسب ما ذكرته ابنة أختها الفنّانة رجاء الجداوي.
المعروف أن هذه الراقصة التي أعجبت الكثيرين من المثقفين ورجال السياسة راحت إلى مكّة لتحج في آخر أيّامها دون أن تحتقر مهنتها أو تتنكّر لتاريخها، وهو سلوك نجده أيضا مع نجوى فؤاد التي تزوّجت اثني عشر رجلا.
ما يمكن قوله هنا إن النظرة الاحتقارية للرقص والراقصات ليست وليدة الحاضر وإنّما ترجع إلى قرون طويلة بعدما تحوّل الرقص من طقوس للعبادة في الأساطير القديمة إلى أداء ترويحي للبهجة والاحتفال، ولعلّ صور الجاريات والمغنيات في العصر العباسي هي الطاغية في الذهنية العربية حتى الآن.
لهذا من المعتاد أن تظهر معظم الراقصات، في سيرهن، غير منزّهات عن المجتمع الذي يعشن فيه، مثلهن مثل بعض الشعراء الذين يتكسبون من قصائدهم ويغيظهم أن تحصل راقصة، أو مغنية، على أجر يفوق ما يحصلون عليه جميعا.