ترمب و"أوبرا الصابون" الطويلة

ترمب و"أوبرا الصابون" الطويلة

وثيقة جديدة تنشرها وسائل الإعلام الأميركية عن مخطط أعده مساعدو الرئيس السابق دونالد ترامب لتغيير نتائج الانتخابات الرئاسية في 2020 بعد الاتهامات التي وجهت إلى ترامب بالتحضير لتمرد رمى إلى منع تولي جو بايدن منصب الرئيس الذي فاز به.

خلاصة ما نُشر أن المحامي العامل في حملة ترامب، كينيث تشيسبيرو وجّه مذكرة داخلية تنطوي على خطة "جريئة ومثيرة للجدال" للتركيز على ادعاءات بوجود أصوات مزورة صبت لمصلحة بايدن بهدف شراء الوقت وكسب الدعاوى القانونية لحرمان بايدن من الفوز ونقل الأصوات إلى مصلحة ترامب.

قبل أسبوع، وصل مضمون الاتهام الذي وجهه المستشار الخاص جاك سميث إلى صميم الإشكال الذي أثاره ترامب خلال أربعة أعوام من وجوده في سدة الرئاسة الأميركية وأثناء حملته الحالية لإعادة انتخابه: إلى أي مدى يستطيع رأس السلطة التنفيذية استغلال موقعه لتبرير بقائه على الرغم من خسارته الانتخابات؟

لائحة سميث المؤلفة من 45 صفحة تشير إلى ما يتجاوز ارتكاب ترامب خطأ أثناء قيامه بمهامه كرئيس للولايات المتحدة وتصل إلى حد اتهامه مع ستة من معاونيه، لم تسمهم اللائحة، بإثارة الاضطرابات وإعداد حركة تمرد تجلت في اقتحام الكونغرس في السادس من يناير/كانون الثاني 2021 لإلغاء نتائج الانتخابات الرئاسية في الثالث من نوفمبر/تشرين الثاني السابق التي خسر فيها ترامب الانتخابات لمصلحة منافسه الديمقراطي جو بايدن.

كُتب الكثير عن تركيبة ترامب النفسية والشخصية باعتباره "الطفل الذي أفسده الدلال" إلى الحد الذي لم يعد قادرا على تحمل أي نقد أو فشل أو حتى الاعتراف بالمسؤولية عن أخطائه

اللائحة التي نشرتها الصحف الأميركية تدعو إلى الدهشة: لقد أُبلغ ترامب من وزير العدل، وموظفين في الوزارة، ومن عدد من كبار مستشاريه، وحتى من أفراد أسرته، أنه قد خسر الانتخابات، وأن ليس من دليل ذي قيمة على أن عمليات تزوير قد وقعت. لكنه أصر على أن الانتخابات "سرقت منه"، وذهب إلى تنظيم ما يشبه الانقلاب الذي كان اقتحام الكونغرس، حصن النظام السياسي الأميركي، شكله الأبرز. 

يضاف إلى ذلك وثيقة المحامي العامل في حملة ترامب ولائحة الاتهامات السابقة عليها، ما يشبه مسلسل من مسلسلات "أوبرا الصابون" بحسب التعبير الأميركي، ويقابلها في منطقتنا المسلسلات التركية والمكسيكية التي لا تنتهي، وحيث تكرر الشخصيات مواقفها المعبرة عن مكنوناتها ونواياها المبيتة وأفكارها الثابتة التي لا تتغير. وعلى غرار المسلسلات تلك، تأبى الملاحقات ضد ترامب أن تنتهي، ما دامت الأسباب التي أطلقتها في المقام الأول ما زالت حاضرة: الانتهاكات التي ارتكبها الرئيس السابق سواء بأسلوب حكمه أو برؤيته لدوره على رأس الدولة الأقوى في العالم، وعدم قدرته على تصديق أن الأميركيين رفضوا التجديد له ويريدون منه الخروج من البيت الأبيض. 

كُتب الكثير عن تركيبة ترامب النفسية والشخصية باعتباره "الطفل الذي أفسده الدلال" إلى الحد الذي لم يعد قادرا على تحمل أي نقد أو فشل أو حتى الاعتراف بالمسؤولية عن أخطائه. الشاب الثري الذي أعطاه أبوه مبلغا كبيرا ليبدأ حياته المهنية في مجال العقارات والذي أمضى القسم الأكبر من حياته نجما في وسائل الإعلام وصاحب مليارات يتسابق الناس على الاستماع إلى نصائحه (أو إهاناته) في برنامجه التلفزيوني، لا يمكن أن يقبل بهزيمة من الناخبين العاديين الذين منحوه رئاسة الولايات المتحدة قبل أربعة أعوام. 

النجم في "أوبرا الصابون" لا يتغير والأحداث لا تؤثر فيه بما يزيد على خدش مشاعره السطحية والظروف التي يبدأ المسلسل بها هي ذاتها التي ترافقه إلى النهاية، فكيف للناخبين أن يغيروا آراءهم وأن يأتوا بنجم آخر منافس يحظى بكل احتقار ترامب؟ 
 

الحرب الثقافية التي تشهدها الولايات المتحدة اليوم والانقسامات المتفاقمة بين الجمهوريين والديمقراطيين حول كل وجه من وجوه الحياة العامة تقريبا، ستكون محور الانتخابات المقبلة التي وضعت على السكة

الخطر الذي تواجهه الديمقراطية الأميركية جدي وعميق ومتنوع الأسباب. ويمثل سلوك ترامب الذي وجد كثيرا من المريدين الأوفياء وخاطب بعض الجوانب العميقة في مشاعر الناخب الأميركي الأبيض المقيم خصوصا في الأرياف والمدن الصغيرة التي تعاني منذ عقود من تدهور مكانتها في بنية الدولة الأميركية بعد خسائرها الاقتصادية الناجمة عن إقفال المناجم ونقل الصناعات إلى خارج الولايات المتحدة والتفشي الوبائي للمخدرات الأفيونية، يمثل السلوك الذي قدم لهذه الفئة من الناخبين أملا في استعادة الأهمية والتخلص من الأعداء الداخليين الذين حمل الحزب الديمقراطي قضاياهم. 

الحرب الثقافية التي تشهدها الولايات المتحدة اليوم والانقسامات المتفاقمة بين الجمهوريين والديمقراطيين حول كل وجه من وجوه الحياة العامة تقريبا، من المثلية الجنسية إلى التنقيب عن المعادن والثروات الباطنية في المحميات الطبيعية، ستكون محور الانتخابات المقبلة التي وضعت على السكة. 

وبات من شبه المسلم به أن ترامب عرف كيف يلتف على الاتهامات القانونية وقدم نفسه ضحية "الدولة العميقة" المسيطرة على واشنطن والأرجح أنه سيتغلب بسهولة على منافسيه للحصول على ترشيح الحزب الجمهوري إلى الرئاسيات في خريف 2024. 

وإذا كان "الطلب" على الديمقراطية ضعيفا في العالم في المرحلة الحالية، فإن وصول رئيس هاجسه الرئيس شخصه واسمه قبل أي شيء آخر، إلى المنصب الأرفع في الدولة الأميركية لن يكون سابقة تاريخية، لكنه قد يسدد ضربة أخيرة وقاضية إلى حكم المؤسسات وتوازن السلطات في واحدة من أكثر الديمقراطيات رسوخا في العالم. 
 

font change