لعبت المملكة العربية السعودية، في عطلة نهاية الأسبوع الماضي، دورا محوريا في جمع كبار المسؤولين والممثلين من أكثر من 40 دولة في مدينة جدة الساحلية، بغية مناقشة خطة السلام الأوكرانية، وهو الاجتماع الثاني من نوعه بعد الاجتماع الأخير الذي عُقد في كوبنهاغن في يونيو/حزيران. ففي مرحلة لا يزال فيها من المستحيل لكل من روسيا وأوكرانيا التفاوض مباشرة لإنهاء الصراع، يجب اعتبار الاجتماع سبيلا صالحا لتوسيع رقعة الاتصالات الهادفة إلى تحقيق نتائج تدريجية.
وعلى الرغم من أن اجتماع كوبنهاغن قد افتقر إلى مستوى معين من التمثيل والنتائج الملموسة، فإن اجتماع جدة استطاع –على النقيض من ذلك– أن ينتج رؤى محددة للجهود المستقبلية بشأن حل الصراع من خلال إنشاء مجموعات عمل على مستوى مستشاري الأمن القومي. وأظهرت الصين– التي مثلها لي هوي، الممثل الخاص لحكومة الصين لشؤون أوراسيا– تفاعلا وترحيبا بفكرة عقد اجتماع ثالث على مستوى اجتماع جدة، في خطوة أخرى للأمام بالنسبة للصين من أجل لعب دور بنّاء في البحث عن أرضية مشتركة بشأن الصراع منذ زيارة لي إلى أوكرانيا وروسيا وعدة دول أوروبية في مايو/أيار.
في هذه الأثناء، فإن المملكة العربية السعودية- مدفوعة بشعور متزايد من الاستقلال الذاتي الاستراتيجي- ماضية في بناء وإثبات فكرة مفادها أنه في سياق المنافسة بين القوى الكبرى، تعيد القوة اللامركزية تعريف المشهد الأمني العالمي في منطقة الشرق الأوسط، وتستوعب الدول الفاعلة الأكثر توافقا.
في مرحلة لا يزال فيها من المستحيل لكل من روسيا وأوكرانيا التفاوض مباشرة لإنهاء الصراع، يجب اعتبار الاجتماع سبيلا صالحا لتوسيع رقعة الاتصالات الهادفة إلى تحقيق نتائج تدريجية
تستطيع المملكة العربية السعودية، على وجه التحديد، الاستفادة من قوتها وإمكانياتها القومية الشاملة لتغدو تدريجيا قوة رئيسة ذات نفوذ دولي من خلال اتباع نهج للسياسة الخارجية والأمنية قائمٍ على أساس المصلحة الوطنية الخاصة.
ويضمن مستوى المرونة في السياسة والإجراءات الخارجية للمملكة العربية السعودية، إلى حد كبير، تحقيق الدولة توازن قوى فعالا نسبيا. والحقيقة أن المملكة استطاعت، منذ أن صرفت الولايات المتحدة تركيزها عن مكافحة الإرهاب إلى المنافسة مع القوى الكبرى التي تستهدف بشكل رئيس الصين وروسيا، الاستفادة استراتيجيا وعمليا من خلال ضبط إنتاجها من النفط.
وفي ما يتعلق بالصراع بين روسيا وأوكرانيا، دخلت المملكة في شراكة مع روسيا لإدارة واردات النفط كخطوة استراتيجية في الساحة الدولية، مما قد يؤثر على الديناميكيات مع الولايات المتحدة. في الوقت نفسه، ومن دون أن تدعم طرفا ضد طرف آخر، قدمت المملكة مساعدات لأوكرانيا بقيمة 400 مليون دولار أميركي. كما نجح النفوذ الاقتصادي النفطي من قبل عندما تعاونت المملكة العربية السعودية وروسيا لخفض إنتاج النفط، وبالتالي زيادة أسعاره على مستوى عالمي. وعلى الرغم من هذه الممارسات، تستطيع المملكة الاستفادة من علاقتها الأمنية طويلة الأمد مع الولاياتِ المتحدةِ وعلاقتها التجارية مع الصين. فيما تقود المناورات الدبلوماسية الرياض إلى توسيع دورها في الحوكمة العالمية في وقت تحمي فيه مصلحتها الوطنية.
المملكة العربية السعودية ماضية في بناء وإثبات فكرة مفادها أنه في سياق المنافسة بين القوى الكبرى، تعيد القوة اللامركزية تعريف المشهد الأمني العالمي في منطقة الشرق الأوسط، وتستوعب الدول الفاعلة الأكثر توافقا
في غضون ذلك، من المهم الاعتراف بأن الفعالية الحالية للحوكمة العالمية لا تزال تعتمد بشدة على الحوكمة القوية في الأمن العالمي، إذ يمثّل الصراع بين روسيا وأوكرانيا وحده تحديا، بل إنه يعيد تشكيل النظام العالمي. وفي حين تكهّن كثيرون بأن اجتماع جدة كان يمكن أن يكون محاولة من بعض الدول لعزل روسيا والفوز بدعم من دول عالم الجنوب التي امتنعت عن اتخاذ موقف واضح، كانت الرياض في المقابل في وضع جيد مكنها من حضور مجموعة من دول عالم الجنوب، ولا سيما الصين التي لم تحضر اجتماع كوبنهاغن.
وتكمن أهمية المشاركة المعمقة لبلدان جنوب العالم في أجندة الأمن العالمي وحل النزاعات في حقيقة أن تلك البلدان سيكون لديها تصور وفهم أمني مختلفان إلى حد كبير. وتمتلك الصين، كقوة كبرى متميزة من دول عالم الجنوب، مجموعة من التصورات والفهم الخاص للأمن، بما يفرض السماح لها بقيادة ثقافة الأمن على المستوى الإقليمي في الشرق الأوسط وعلى الصعيد العالمي.
أولا، تعتقد الصين أن الأمن شرط أساسي من شروط التنمية؛ فقد كان الأمن في منطقة الشرق الأوسط هو الشغل الشاغل بالنسبة للسياسة الصينية قبل أن تضع الصين العلاقات الاقتصادية والتجارية مع المنطقة في صدارة جدول أعمالها. وينطبق هذا على مناطق أخرى بما في ذلك أوراسيا. وفي هذا الصدد، فإن الأمن له حدود، وأمن الدولة في بلد ذي سيادة هو المسؤول عن أمنه الخاص وسيكون كذلك. وينبغي أن لا تؤدي المخاطر الأمنية إلى مخاطر استراتيجية. لذلك، فإن وقف الصراع واحترام سيادة جميع الدول يمثلان أولوية لحل الصراع في المستقبل.
من المهم الاعتراف أن الفعالية الحالية للحوكمة العالمية لا تزال تعتمد بشدة على الحوكمة القوية في الأمن العالمي، إذ يمثّل الصراع بين روسيا وأوكرانيا وحده تحديا، بل إنه يعيد تشكيل النظام العالمي
ثانيا، يجب أن يكون الأمن داخليا وينبغي أن يتجه من الأسفل إلى الأعلى. ويجب على الدولة التركيز على ضمان أمن وسلامة مواطنيها على الدوام. وهو في منزلة إنجاز للأمن العام سيؤدي إلى تحقيق الأمن الاجتماعي وفي نهاية المطاف سيؤدي إلى أمن الدولة التي ستكون لديها القدرة على حماية أمنها الوطني. وبالتالي، يجب أن تُبقي قدرة الدولة الأمنية تركيزها على الأمن العام، والامتناع عن أي استخدام موسع من شأنه أن يتسبب في مخاطر متنوعة.
ثالثا، تظل التعددية هي أكثر الآليات فعالية ولا يمكن الاستغناء عنها لتحقيق السلام العالمي. يحتاج الأمن إلى إدارة وحوكمة في إطار متعدد الأطراف هو الأمم المتحدة. ويجب التعامل مع المخاطر والمشكلات الأمنية الإقليمية والدولية من خلال التشاور. ومن الآن فصاعدا، ثمة حاجة إلى التمثيل المتنوع على مخطط يقدم تصورا أمنيا إيجابيا، وشاملا، ومستداما، وواسع الإدراك ـ وفهما يمنع تقديم التحركات والسرديات السياسية التي ترضي إرادة أي دولة بمفردها على نحو فعال.
من هنا، ينبغي أن يكون اجتماع جدة بداية محاولة جديدة من المجتمع الدولي لتشكيل منصة متعددة الأطراف، حيث يفترض بكبار المسؤولين على مستوى مستشاري الأمن القومي، أو الذين يتمتعون بالقدرة على معالجة قضايا الأمن الوطني والدولي مع رؤساء دولهم، أن يقوموا ببناء إجماع حول ما يعنيه الأمن اليوم وغدا؛ وطرحِ خطوات موحدة لتحقيق الأمن والاستقرار العالميين. وفي هذا الصدد، فإن جنوب الكرة الأرضية يشعر بثقة أكبر في يومنا هذا ولديه باع طويل، وتجربة مختلفة من الأمن وانعدام الأمن، ينبغي الاستماع إليها.