لم تكن حفلة مغني الراب الأميركي المشهور عالميا ترافيس سكوت، التي كان مقررا إقامتها في القاهرة يوم 28 يوليو/تموز الماضي، الأولى التي يصدر قرار بمنعها في اللحظة الأخيرة، استجابة لحملة في مواقع التواصل اتُهم فيها بأنه يُزّيف تاريخ مصر ويُهدّد هويتها بسبب دعمه حركة المركزية الأفريقية (Afrocentric أو (Afrocentrism. حدث مثل ذلك قبل خمسة أشهر حين أُلغيت حفلة كوميديا ارتجالية "ستاند آب كوميدى" للكوميديان الأميركي كيفين هارت في فبراير/شباط الماضي للسبب نفسه.
والحال أنها كثيرة ومتواترة مواقف أعداد غير معروفة بدقة من المصريين ضد حركة المركزية الأفريقية. ولعل أشهرها الحملة التي استمرت لعدة أشهر ضد دراما كليوباترا الوثائقية التي عُرضت في منصة "نتفليكس". فقد اتُهمت بأنها تهدف إلى تزييف هوية مصر وحضارتها القديمة، بسبب أداء الفنانة البريطانية السوداء، أونيل جيمس، دور الملكة كليوباترا. ورأى المحتجون أن تسويد بشرة كليوباترا ليس إلا مؤامرة لتزييف هوية مصر وحضارتها القديمة، على أساس أن هذه الملكة كانت من أصل مقدوني يوناني، وليست من أصل أفريقي. ورتبوا على ذلك أن هوية مصر وحضارتها مستهدفتان من جانب أنصار المركزية الأفريقية.
ويثير هذا الخلاف/ الصراع سؤالا منطقيا عن مغزاه؛ فأنصار المركزية الأفريقية يرمون إلى تأكيد أهمية أفريقيا ورد الاعتبار للأفارقة وذوي الأصل الأفريقي الذين طال ظلمهم منذ أن بدأ غربيون في استعبادهم في القرن الخامس عشر، وما زال بعض تجليات التمييز ضدهم مستمرا في الولايات المتحدة حتى اليوم. والمصريون أفارقةُ ليس بحكم الجغرافيا فقط، ولكن لوجود مُكّون أفريقي في هويتهم أيضا. وتعتمد الحكومات في مصر على هذا المُكّون في سياساتها تجاه القارة السمراء، وخاصة منذ أوائل خمسينات القرن الماضي عندما نُشر كتاب "فلسفة الثورة"، الذي كتبه الصحافي الراحل محمد حسنين هيكل، مُوقّعا باسم الرئيس جمال عبدالناصر، عام 1954. فقد حدّد دوائر السياسة المصرية في ثلاث: عربية وأفريقية وإسلامية.
فكيف تكون المركزية الأفريقية، إذن، تهديدا لهوية مصر التي تتضمن مكونا أفريقيا؟
للجواب عن هذا السؤال يتعين البحث عن موطن الخطأ الذي يؤدي إلى سوء فهم متبادل بين مصريين أفارقة وأنصار المركزية الأفريقية.
مصر في منظار المركزية الأفريقية
ربما يعود أصل هذا الخطأ إلى قصور في نظرة أنصار "المركزية الأفريقية" إلى مصر، إذ يتعاملون معها على أساس أنها ليست أفريقية. ووجه القصور هنا أنهم يحصرون الانتماء الأفريقي في لون البشرة، ومن ثم يُخرِجون شعوب شمال القارة من دائرته. أفريقيا لدى هؤلاء هي جنوب الصحراء الكبرى.
أنصار المركزية الأفريقية يرمون إلى تأكيد أهمية أفريقيا ورد الاعتبار للأفارقة وذوي الأصل الأفريقي الذين طال ظلمهم منذ أن بدأ غربيون في استعبادهم في القرن الخامس عشر
وهذا فخُ نَصَبه مؤسسو المركزية الأفريقية لأنصارهم حين انقادوا وراء رد فعل آلي "ميكانيكي" ضد العنصرية الغربية البيضاء، ولم ينتبهوا إلى أنهم يردون عليها بما قد يبدو أنه مثلها ولكن في اتجاه مضاد لها، حين يتعصبون للون الأسود.
وهم ينسون، والحال هكذا، أن السود في العالم ليسوا أفارقة فقط. يوجد سودُ في بعض بلدان أميركا الجنوبية والبحر الكاريبي. وعددهم لا يقل كثيرا عن نظرائهم في أفريقيا. ومن شأن الاستغراق في لون البشرة تمييع دلالة المركزية الأفريقية، بعكس ما تصوره مُؤسّسوها. ثمة خطأ تأسيسي، إذن، نتج عن الاعتماد على لون البشرة معيارا وحيدا لا ثاني له. ومن شأن هذا الخطأ أن يُضعف حركة المركزية الأفريقية، ويخلق خصوما لها في أوساط من يُفترض أن يناصروها.
مغالاةٌ في الشعور بالاستهداف
وعلى الجانب الآخر، لا يمكن لوم أي شخص يحرص على تاريخه، ويرفض ما يبدو له تزييفا لهذا التاريخ. وهذا هو الأساس الذي تنطلق منه الحملاتُ في مصر ضد المركزية الأفريقية من وقت إلى آخر. لكن هذه الغيرة تؤدي، حين تبلغ أوجها، إلى اختزال المركزية الأفريقية في مؤامرةٍ دُبرت بليل للنيل من الحضارة المصرية. وهذا هو مكمن الخطأ في رد الفعل على مواقفها التي كانت في الأصل رد فعل على الممارسات الغربية العنصرية. وفي الحالتين يبدو رد الفعل آليا وبسيطا على نحو لا يستقيم في قضية مُعقدة ومُركبة.
وحتى إذا لم تكن مصر أفريقية، فالمفترض أن تكون قضية إعادة الاعتبار إلى الأفارقة وذوي الأصل الأفريقي، ومواجهة المركزية الغربية على هذه الخلفية، محل تقدير لدى كل من عانوا، ويعانون، التداعيات الاقتصادية والسياسية لهذه المركزية.
وربما كان لنشأة حركة المركزية الأفريقية في الغرب، وفي الولايات المتحدة تحديدا، أثر في الصورة السلبية الشاملة التي رُسمت لها في بعض الأوساط المصرية. فقد مضى زمن كان الوعي قد تنامى خلاله بأن الغرب ليس كتلة صماء، وأنه غربان، وليس غربا واحدا. أحدهما استعماري متغطرس ومتعالٍ، والثاني تحرري وتقدمي ومناهض للاستعمار. وجاء زمن تشيعُ فيه صورة نمطية للغرب تُقولبه وتختزله في قوى طامعة ومتجبرة. ولا تقتصر هذه الصورة على سياسات الغرب، بل تشمل حضارته وثقافته أيضا.
ولنأخذ الهجوم الحاد ضد دراما كليوباترا الوثائقية مثالا على هذه القولبة، إذ دفع موقف ناتج من الصورة النمطية السلبية للنظر إليها بوصفها تسجيلا حرفيا للتاريخ، ولم تُترك مساحةُ للتفكير في أنها عمل فني يدخل التخيل في صناعته، وليست توثيقا تاريخيا دقيقا.
وسبق أن ظهرت شخصيات تاريخية عدة في صور متخيلة في أعمال درامية وثائقية؛ فالوثائق تُستخدم في "الدوكيو دراما" في سياق قصة تنطوي على شيء من الخيال، وخاصة حين تتناول مرحلة أو شخصية تاريخية لا تتوافر معلومات يقينية عن بعض جوانب حياتها، وهو ما قد يرى البعض أنه ينطبق على كليوباترا التي لم تُكتشف أصولها بعد، ولا يُعرف من هما أمها وجدتها، وهل كانتا بيضاوين أم سمراوين. ربما زاد الخيال عن حده المقبول في دراما كليوباترا الوثائقية. ولكن رد الفعل زاد عن حده أيضا في هذه الحالة، وغيرها من الحالات، آخرها حفلة ترافيس سكوت التي أُلغيت قبل أيام.
ربما كان لنشأة حركة المركزية الأفريقية في الغرب، وفي الولايات المتحدة تحديدا، أثر في الصورة السلبية الشاملة التي رُسمت لها في بعض الأوساط المصرية
وهكذا قوبل خطأ نتج من قصور تأسيسي في الفكرة التي قامت عليها المركزية الأفريقية بخطأ مضاد، الأمر الذي رسَّخ سوء فهم يبلغ أوجه الآن. ولكنه قابل للحل عبر حوار جدي، وضروري أيضا، لأن استمراره على هذا النحو يُلحق أضرارا بطرفيه.