مستقبل أفريقيا بين سندان الغرب ومطرقة الوعود الروسيةhttps://www.majalla.com/node/297071/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D9%85%D8%B3%D8%AA%D9%82%D8%A8%D9%84-%D8%A3%D9%81%D8%B1%D9%8A%D9%82%D9%8A%D8%A7-%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%B3%D9%86%D8%AF%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%BA%D8%B1%D8%A8-%D9%88%D9%85%D8%B7%D8%B1%D9%82%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B9%D9%88%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%88%D8%B3%D9%8A%D8%A9
نالت أفريقيا اهتماما دوليا متزايدا خلال شهر يوليو/تموز الماضي، وذلك بسبب حدثين مهمين. الأول، كان القمة الروسية الأفريقية الثانية. أما الثاني فهو الانقلاب في النيجر. ومن المحتمل أن يكون لكلا الحدثين تداعيات على مستقبل القارة.
وقد أكدت القمة أن التدافع الثاني من أجل أفريقيا مستمر بكثافة. وكان التدافع الأول قد حدث خلال الفترة ما بين 1885-1914. فيما يثير انقلاب النيجر تساؤلات حول المسار السياسي المستقبلي الذي ستتخذه أفريقيا.
ويرتبط كلا التطورين بروسيا سواء بشكل مباشر، أي القمة، أو بشكل غير مباشر، أي الانقلاب؛ إذ إن طريقة تطورهما ستؤثر على الدور الذي تطمح روسيا إلى القيام به في أفريقيا. وبينما لا يزال من المبكر الحكم على تأثير كلا التطورين، فإن تأثير القمة سيعتمد على كيفية ترجمة تطلعات البلدان الأفريقية وروسيا، المبينة في الوثائق الختامية، إلى إجراءات عملية.
وفي محاولة لقياس تأثير هذه الأحداث على المستقبل وأفريقيا، قد يكون من المفيد استرجاع تاريخ القارة في القرنين الماضيين. حدث التدافع الأول من أجل أفريقيا خلال الفترة التي قامت فيها القوى الاستعمارية الأوروبية بتقسيم القارة لاستغلال مواردها الطبيعية الغنية. وفي وقت لاحق وخلال الفترة المتبقية من القرن العشرين، انخرطت أفريقيا في النضال من أجل الاستقلال السياسي. في هذه المرحلة، اختبرت كثير من النماذج الاقتصادية والحوكمة إلا أن أغلبها انتهى بالفشل. كما كانت أفريقيا أيضا نقطة ثانوية في المنافسة بين الشرق والغرب خلال الحرب الباردة. وكل ما سبق منع أفريقيا من تفعيل إمكاناتها الحقيقية.
على الرغم من امتناع غالبية البلدان الأفريقية عن اتخاذ مواقف معادية لروسيا بشأن أوكرانيا، بما في ذلك في الأمم المتحدة، إلا أن شعورا بعدم الاطمئنان في علاقاتهم مع روسيا بدأ في الظهور
ومع ذلك، منذ بداية القرن الحادي والعشرين، عادت أفريقيا إلى دائرة الاهتمام الدولي فيما يمكن تسميته "التدافع الثاني من أجل أفريقيا". إلا أن التدافع هذه المرة لا يقتصر على استغلال الموارد الطبيعية لأفريقيا، بل يشمل أيضا الوصول إلى أسواقها، والقوى العاملة فيها، وطرق التجارة التي تقع على طول خطوط الاتصال والتجارة البحرية الرئيسية في المحيطين الأطلسي والهندي.
ربما كانت الظروف والأدوات التي تستخدمها القوى الخارجية هذه المرة مختلفة، لكن الأهداف العامة ما زالت ذاتها إلى حد كبير: الاستفادة من الإمكانات الهائلة لأفريقيا. إلا أن النتيجة في هذه المرة لن تكون صفرا بالنسبة للبلدان الأفريقية؛ إذ إنها تطورت بطريقة تجعلها في وضع أفضل لتأمين مصالحها الوطنية والجماعية.
وتغير اللاعبون الرئيسون أيضا؛ إذ شمل التدافع الأول القوى الأوروبية. أما الثاني، فيشمل كثيرا من اللاعبين. وبالإضافة إلى القوى الأوروبية التقليدية التي لا تزال لديها مصالح كبيرة في القارة، أصبحت الصين والولايات المتحدة واليابان وروسيا اليوم أيضا لاعبين مهمين. وبدرجة أقل، أبدت دول مثل البرازيل وتركيا والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وحتى إيران اهتماما متزايدا بهذه المنطقة.
وباستثناء فرنسا والمملكة المتحدة، فإن تجربة روسيا في أفريقيا أطول بكثير وأكثر كثافة واتساعا مقارنة بمنافسيها الرئيسين؛ إذ أظهر الاتحاد السوفياتي اهتماما كبيرا بأفريقيا بدءا من الخمسينات، ودعم عملية إنهاء الاستعمار هناك. واستمر هذا الاهتمام في التطور حتى زوال الاتحاد السوفياتي عام 1991.
وبعد فترة من الاضطراب السياسي والاجتماعي وضعف النمو الاقتصادي بعد عقد الاستقلال في الستينات، بدأت حظوظ أفريقيا في التحول عام 2000. وتزامن ذلك مع انتعاش الاقتصاد الروسي الناتج عن النفط والغاز وازدهار السلع.
لكن نقطة التحول بالنسبة لروسيا حدثت بعد زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الأولى للقارة الأفريقية عام 2006. ومنذ ذلك الحين نمت العلاقات بين روسيا والدول الأفريقية بشكل كبير، وبلغت ذروتها في أول قمة روسية أفريقية عقدت في سوتشي عام 2019؛ فقد انعقدت القمة الأولى في ظروف مواتية لروسيا. إذ كان اقتصادها مزدهرا وجمعت روسيا موارد كبيرة جعلتها تستعيد المكانة التي احتلها الاتحاد السوفياتي ذات يوم.
وبوجود موارد وفيرة تحت تصرفها، وعلاقات متوازنة مع الغالبية العظمى من البلدان التي كانت في بعض الأحيان معادية لبعضها البعض- باستثناء الغرب نتيجة لضم شبه جزيرة القرم عام 2014– إضافة لنموذج سياسي كان الكثير من دول جنوب العالم على استعداد لمحاكاته، وجيش عززه أداؤه في سوريا، شرعت روسيا في استعادة دورها كلاعب رئيس في أفريقيا وقوة عظمى على الساحة الدولية.
منذ ذلك الحين، واجهت روسيا رياحا معاكسة. أولا، عام 2020 كانت هناك جائحة كوفيد-19، ومن ثم جاءت أزمة 2022 في أوكرانيا؛ إذ تسبب الوباء في تعطيل تطلعات وخطط القمة الأولى.
وعلى الرغم من امتناع غالبية البلدان الأفريقية عن اتخاذ مواقف معادية لروسيا بشأن أوكرانيا، بما في ذلك في الأمم المتحدة، إلا أن شعورا بعدم الاطمئنان في علاقاتهم مع روسيا بدأ في الظهور.
وعانت البلدان الأفريقية بشكل غير متناسب من ارتفاع أسعار الحبوب نتيجة للحرب. لكن التصرفات الروسية أيضا طرحت تساؤلات حول احترام موسكو لقدسية الحدود الدولية، وهو مبدأ أساسي للدول الأفريقية منصوص عليه في ميثاق منظمة الوحدة الأفريقية، سلف الاتحاد الأفريقي.
مع تعرض روسيا لعقوبات أشد صرامة من قبل الغرب مقارنة بعام 2014، فإنها تحتاج إلى الاعتماد على جهات فاعلة دولية أخرى لتعويض خسائرها
نتيجة لذلك أجلت القمة الثانية، التي كان من المقرر عقدها في الأصل عام 2022، إلى يوليو/تموز 2023. وعقدت أيضا في ظروف أقل ملاءمة لروسيا. وتجسدت القمة في سياق التنافس المتصاعد بين روسيا والصين من جهة والغرب من جهة أخرى، وهي حالة لم تكن الدول الأفريقية مرتاحة لها. وتمتع منافسو روسيا الرئيسون ببعض الأسبقية. إذ عقدت الصين والاتحاد الأوروبي وتركيا والولايات المتحدة قممها مع أفريقيا في الفترة من 2021 إلى 2022.
ولكن هذه المرة، اكتسب اهتمام روسيا بأفريقيا أهمية وحاجة إضافيتين. فمع تعرض روسيا لعقوبات أشد صرامة من قبل الغرب مقارنة بعام 2014، فإنها تحتاج إلى الاعتماد على جهات فاعلة دولية أخرى لتعويض خسائرها. وينعكس هذا بوضوح في مفهوم السياسة الخارجية الروسية الذي تم إصداره مؤخرا. تُمنح أفريقيا، باعتبارها جزءا رئيسا من الجنوب العالمي، دورا مهما في السعي إلى تشكيل نظام دولي جديد متعدد الأقطاب.
وتوفر الثروة المعدنية والطلب على الطاقة في أفريقيا بشكل خاص ساحة ذات أهمية استراتيجية لروسيا للالتفاف على العقوبات الغربية مرة أخرى من أجل تعزيز إمداداتها من المعادن الثمينة وعناصر الأتربة النادرة، وكذلك لتأمين الإيرادات الأجنبية المتعلقة بمشاريع الطاقة.
في ظل هذه الظروف انعقدت القمة الثانية. لذلك ليس من المستغرب أن يكون التمثيل الأفريقي أقل من تمثيله في القمة الأولى. حيث شاركت 54 دولة أفريقية في القمة الأولى، ومثلها 47 رئيس دولة، أما في القمة الثانية فشاركت 48 دولة من بينها 27 دولة مثلها رؤساء الدولة أو نوابهم أو رؤساء الوزراء.
شددت روسيا في القمة على ما تعتبره مواقف مشتركة مع أفريقيا: السعي إلى نظام دولي متعدد الأقطاب، والتعاون الأمني ومكافحة الإرهاب، والاستقلال الاقتصادي عن الغرب، والقيم الأسرية. من ناحية أخرى، أكد القادة الأفارقة بالإضافة إلى ذلك على: الأمن الغذائي، ونقل التكنولوجيا، والاستثمارات، ووصول صادراتهم إلى الأسواق، وأمور أخرى.
وقد عكس إعلان القمة الأهداف المشتركة التي تسعى كل من روسيا والبلدان الأفريقية إلى تحقيقها: هيكل متعدد الأقطاب أكثر إنصافا للنظام العالمي، بما في ذلك إعادة بناء الهيكل المالي العالمي، وتعويض الدول الأفريقية عن الأضرار التي سببها الاستعمار وإعادة الكنوز الثقافية التي نقلها المستعمرون، ومواجهة مظاهر السياسات الاستعمارية الجديدة التي تهدف إلى تقويض سيادة الدول، وتعزيز التجارة والتعاون الاقتصادي والاستثماري ونقل التكنولوجيا، وضمان الأمن الغذائي وأمن الطاقة في القارة الأفريقية، والتعاون في مجال تحول الطاقة.
وبالإضافة إلى خطة عمل الشراكة الروسية- الأفريقية، التي ستنفذ قرارات القمة، اعتمدت ثلاثة إعلانات أخرى: أحدها بشأن منع سباق التسلح في الفضاء، وواحد بشأن التعاون في أمن المعلومات، والآخر بشأن تعزيز التعاون في مكافحة الإرهاب، وإنشاء آلية أمنية روسية أفريقية جديدة دائمة. علاوة على ذلك، سيعقد منتدى برلماني روسي أفريقي بشكل سنوي. وأعلن خلال القمة أن روسيا ستخصص أكثر من 90 مليون دولار لخفض أعباء ديون الدول الأفريقية، حيث ألغت موسكو مديونيتها البالغة 23 مليار دولار، وبالتالي تسوية 90 في المئة من الديون الأفريقية المستحقة لموسكو.
لقد دفعت القمم بين روسيا وأفريقيا، بالإضافة إلى القمم التي نظمتها الصين والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بأفريقيا إلى ساحة المنافسة بين القوى العظمى.
وبينما يعلق اللاعبون الأجانب آمالا متزايدة على علاقاتهم مع أفريقيا، فإن الدول الأفريقية من ناحية أخرى لديها تطلعات طموحة فيما يتعلق بالفوائد التي يتطلعون إلى تحقيقها من المنافسة بين هذه القوى. وسيحدد التفاعل بين هذه التوقعات والتطلعات مستقبل أفريقيا.
دفعت القمم بين روسيا وأفريقيا، بالإضافة إلى القمم التي نظمتها الصين والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بأفريقيا إلى ساحة المنافسة بين القوى العظمى
عندما يتعلق الأمر بروسيا، فإن البصمة الإجمالية لروسيا في أفريقيا بالمقارنة مع منافسيها الرئيسين لا تزال هامشية، باستثناء التعاون العسكري ومكافحة الإرهاب (إذ كانت روسيا أكبر مورد للأسلحة في القارة في الفترة من 2017 إلى 2021، حيث شكلت 44 في المئة من جميع واردات الأسلحة إلى القارة)، والطاقة (بما في ذلك الطاقة النووية)، وعمليات التعدين.
ومن المحتمل أن لا تكون روسيا في وضع يمكنها من تلبية جميع توقعات البلدان الأفريقية، لا سيما عندما يتعلق الأمر بالاستثمارات والمساعدات المالية والإنمائية. وللتعويض عن ذلك، تسعى روسيا إلى تعزيز جهودها من خلال إدخال الاتحاد الاقتصادي الأوراسي وبريكس في الصورة.
وبالنسبة للبلدان الأفريقية، تعتبر روسيا شريكا مغريا نظرا لوفرة خبراتها الفنية، ونهجها غير المشروط في التعاون، وموقعها العالمي كقوة موازنة للغرب. وقد يكتسب الاعتبار الأخير مزيدا من الاهتمام خلال السنوات القادمة حيث أصبحت قضايا احتياجات الطاقة في أفريقيا، والانتقال للطاقة الخضراء، مسيسة بشكل متزايد ومؤطرة في مواجهة المعايير المزدوجة الغربية، ونقص الحاجة لمعالجة هذه القضايا.
علاوة على ذلك، تشكل الأنظمة العسكرية- وعددها قابل للزيادة- والتي تخضع حاليا لعقوبات غربية وتملك موقفا معاديا للغرب وتركيزا على مكافحة الإرهاب والأمان، منصة واعدة لتعزيز مصالح روسيا في أفريقيا.
يبلغ الناتج المحلي الإجمالي لقارة أفريقيا اليوم 3 تريليونات دولار أميركي، بآفاق واعدة لنمو اقتصادي حقيقي، مع امتلاكها لاحتياطيات كبيرة من النفط والغاز، وتعتبر موطنا لحوالي 30 في المئة من الموارد المعدنية الحيوية والتي تدعم عالمنا الحديث. بالإضافة إلى ذلك، فإن أراضي القارة الخصبة، ولكن غير المستغلة بالكامل، لديها قدرة هائلة على إنتاج الغذاء. وأيضا، تحتوي أفريقيا على حوالي 30 في المئة من الغابات المطيرة الموجودة في العالم. لذا، لا يمكن الاستهانة بالدور المحوري الذي تلعبه في إدارة المناخ. والجدير بالذكر أنه وبحلول نهاية هذا القرن، ستكون أفريقيا موطنا لـ40 في المئة من سكان العالم، وستشهد الثلاثين سنة القادمة زيادة بأكثر من 500 مليون شاب وشابة، أي إن حوالي 42 في المئة من إجمالي القوى العاملة العالمية ستكون موجودة في أفريقيا.
وتلعب أفريقيا دورا محوريا في معالجة التحديات العالمية العابرة للحدود مثل التدهور البيئي والأوبئة وأمن الطاقة والإرهاب والأمن الغذائي. كما تمتد أهمية القارة إلى الحفاظ على إمدادات المعادن الأساسية التي تدفع الاقتصاد الحديث، مثل الليثيوم والكوبالت والنيكل وغير ذلك. وأيضا، في حال تجهيز القوة العاملة الهائلة في أفريقيا بالمهارات اللازمة لوظائف القرن الحادي والعشرين وما بعده، فإن ذلك سيشكل نعمة ليس للمنطقة فحسب، بل للاقتصاد العالمي ككل. لكن هذا يعتمد بدوره على مدى قدرة الاقتصادات الرئيسة في العالم، في الغرب والشرق على حد سواء، على إقامة نوع من العلاقات مع أفريقيا تسمح لها بالاستفادة من هذه الإمكانات.
يذكر أيضا أنه وفي حال حدوث الاستثمارات اللازمة، فستتمكن أفريقيا من المساهمة الفعّالة في مواجهة تلك المشاكل، وعلى العكس من ذلك، إذا لم تُعالج نقاط ضعفها بشكل مناسب، فإنها ستشكل تحديات متزايدة للعالم.
وفي الختام، بينما تشترك روسيا وأفريقيا في بعض الأهداف والمصالح المشتركة، فإن هناك تحديات يتعين على الجانبين التغلب عليها من أجل جني الفوائد من تعزيز العلاقة. أولا، هناك حاجة لرفع مستوى الوعي، لا سيما في مجتمعات الأعمال في كل من روسيا وأفريقيا، حول فوائد التعاون.
ثانيا، هناك حاجة لإدارة التوقعات الأفريقية عندما يتعلق الأمر بآفاق التجارة والاستثمارات الروسية.
ثالثا، يجب إيجاد ترتيبات للتعامل مع نظام العقوبات الصارم الذي يفرضه الغرب. وستحتاج الدول الأفريقية لإيجاد طريقة من أجل تعزيز علاقاتها مع روسيا دون تعريض اعتمادها المستمر على الغرب لا سيما الاتحاد الأوروبي، للخطر.
الميزة الوحيدة التي تمتلكها روسيا، إضافة للصين، في أفريقيا، هي أن تعاونها يأتي دون قيود. وسيستمر التدافع من أجل أفريقيا، وربما يشتد في العقود القادمة. وسيكون التحدي بالنسبة لأفريقيا هو كيفية تحويل هذه المنافسة لصالحها.