أعلنت موسكو مطلع الشهر المنصرم وقف العمل باتفاق الحبوب الذي وُقع في يوليو/تموز 2022 بوساطة من الأمم المتحدة وتركيا. وكرّر الرئيس فلاديمير بوتين شروطه لعودة العمل بالاتفاق ومنها تسهيل تصدير الحبوب والأسمدة الروسية، حيث تشكل القيود المفروضة على المدفوعات والخدمات اللوجستية والتأمين عائقا أمام عمليات الشحن. وبالتزامن مع الإعلان الروسي قُصفت الموانئ الأوكرانية على البحر الأسود التي تُصدّر منها الحبوب وميناء إسماعيل على نهر الدانوب الذي يُعدّ ثاني أطول أنهار أوروبا.
دخل ملف الحبوب بقوة ساحة الصراع بوصفه من أوراق الضغط التي تضعها كل من موسكو وكييف في خدمة معركتهما، ففيما يمكن القول إن أسباب موسكو لا تقتصر على إلغاء القيود على الصادرات الروسية بل تضع مسألة الحبوب في سياق الرد على الهجمات الأوكرانية بالطائرات المسيّرة على جسر القرم وعلى السفن الروسية واحتمالات استخدام سفن الحبوب في نقل أسلحة لخدمة جبهات الحرب، تحاول كييف بدورها وضع موسكو في مواجهة المجتمع الدولي من خلال تحميلها مسؤولية ارتفاع أسعار الغذاء في العالم لا سيما أمام أصدقائها من الدول المتلقية للحبوب الأوكرانية كالصين وتركيا ومصر والجزائر والمغرب، كما تحث الغرب على إمدادها بأسلحة بحرية تستهدف السفن الروسية لفتح ممرات الحبوب.
قصف ميناء إسماعيل على نهر الدانوب الذي ينبع من ألمانيا ويحاذي أو يمر بــ10 دول أوروبية- ألمانيا (23 في المئة)، النمسا (10.3 في المئة)، سلوفاكيا (5.8 في المئة)، المجر (11.7 في المئة)، كرواتيا (4.5 في المئة)، صربيا (10.3 في المئة)، رومانيا (28.9 في المئة)، بلغاريا (5.2 في المئة)، مولدوفا (حوالي كيلومترين) وأوكرانيا (3.8 في المئة)- ليصب في البحر الأسود، هو بمثابة إعلان موسكو عزمها على استثمار أزمة الحبوب حتى النهاية بجعلها جزءا من الحرب الدائرة وتحميل الداخل الأوروبي تبعات قراراته الداعمة لأوكرانيا.
وتبدو الخيارات المتاحة أمام أوكرانيا محدودة في حال فشل الخيار الدبلوماسي عبر تركيا والأمم المتحدة في إنهاء أزمة الحبوب. فخيار استخدام الطرق البرية وخطوط سكك الحديد مع دول الجوار يعني بالدرجة الأولى إقرارا أوكرانيا وغربيا بخسارة الموانئ بعد المطارات، هذا بالإضافة إلى الارتفاع في كلفة التصدير التي ستفاقم ارتفاع أسعار الغذاء. كما أن استخدام موانئ دول الجوار للتصدير عبر نهر الدانوب أو موانئ كرواتيا على البحر الأدرياتيكي سيؤدي إلى إدخال هذه الدول كأطراف في الصراع القائم. وتجدر الإشارة إلى أن بعض الدول المجاورة مثل بولندا ترفض مرور صادرات أوكرانيا من أراضيها لعدم تأثر أسواقها المحلية. وبناء على ذلك يتقدم خيار المواجهة بتوجيه ضربات للسفن الروسية في البحر الأسود على سواه من الخيارات ليصيح البحر الأسود ميدان المعركة الرئيس بعد تعذر تحقيق نتائج حقيقية في المواجهات البرية بعد أكثر من 18 شهرا على انطلاق الحرب.
بحر البلطيق مسرح محتمل للعمليات العسكرية القادمة
كانت قمّة الناتو التي انعقدت يوم 11 يوليو/تموز 2023 في فيلنيوس هي الأولى التي تشارك فيها فنلندا كعضو في الحلف، وقد تمت خلالها موافقة تركيا على انضمام السويد، الأمر الذي يمهد الطريق لتحوّل استراتيجي في منطقة كانت موسكو تسيطر عليها ذات يوم.
ازدادت سيطرة الناتو بشكل مطرد على بحر البلطيق، وهو البوابة البحرية الهامة للأسطول الروسي للوصول إلى قواعده بالقرب من سان بطرسبرغ وفي منطقة كالينينغراد المعسكرة بشدة. فخلال الحرب الباردة، اقتصر وجود الحلف على كل من الدنمارك وألمانيا في أقصى الطرف الغربي لبحر البلطيق، لتنضم بعد ذلك بولندا في عام 1999 ويصبح معظم الساحل الجنوبي للبحر في عهدة جمهوريات البلطيق الثلاث وتحت سيطرة الناتو. وخلال العام الحالي تخلت كل من السويد وفنلندا عن حيادهما الطويل الأمد وتقدمتا في مايو/أيار المنصرم بطلب الانضمام إلى التحالف في أعقاب الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا.