القاهرة: بدأ اهتمام د. هالة فودة، أستاذة الأدب الفرنسي بجامعة عين شمس، بتصميم الأزياء العصرية مستخدمة "تطريز التلي" بمحض الصدفة، قبل ثلاث سنوات، حين زارت أحد المعارض التراثية، ومنذ ذلك الوقت أصبح هذا الفن شغفا لا يفارقها.
تتذكّر فودة تلك الزيارة في حوارها مع "المجلة": "تحدثت خلال المعرض مع سيدات سوهاج اللاتي يبدعن تطريز التلي، عن ضرورة الاهتمام بتطويره والخروج به عن الشكل التقليدي ليكون عصريا يسهل ارتداؤه ويتناسب مع مختلف المناسبات، ويتمتع بجودة عالية تفتقدها أحيانا الأزياء التراثية التقليدية".
وتضيف: "عشقي للتاريخ بصفة عامة والتراث والأزياء التراثية المصرية بصفة خاصة، يمتدّ لسنوات طويلة. تلاقت رؤيتي مع السيدة عفاف عارف وهي من رائدات تطريز التلي بجزيرة شندويل بسوهاج منذ عشرين عاما، واتفقنا على محاولة تطبيقها معا. وبالفعل، عكفت على قراءة كل ما يتعلق بتاريخ التلي وتطوره وموتيفاته الكثيرة وأسمائه ومعانيه. بدأت بتصميم قطع مختلفة من الملابس تدمج موتيفات التلي التراثية مع طرز حديثة وتقوم عفاف بالإشراف على تنفيذها بدقة وجودة متناهيتين من خلال مجموعة من الشابات والسيدات اللاتي يجيدن هذا الفن التراثي الأصيل ويتوارثنه عبر الأجيال".
يطلق اسم التلي في مصر على النسيج المزين بالأشرطة المعدنية، وهو مصطلح عربي يعني الشبك بالمعدن. ويعود إلى مصر القديمة حيث عثر على أقمشة مطرّزة بالتلي في بعض المقابر الأثرية، وكان الخيط المعدني المستخدم فيها من الذهب. وبحسب دراسة أعدّتها الباحثة دعاء محمد بكلية الفنون التطبيقية قسم الملابس الجاهزة بعنوان "دراسة أسلوب التلي كمصدر لتصميم الأزياء وتشكيل المانيكان" يعدّ تطريز التلي التراثي المصري تعبيرا صادقا عن الذوق الشعبي الفطري الذي يتميز به المجتمع الصعيدي خاصة في محافظتي أسيوط وسوهاج.
أحلم بتوثيق كل ما يتعلق بالتلي وتسجيله كتراث مصري أصيل وأسعد عندما نتمكن من إعادة إحياء نموذج لقطعة قديمة ومميزة من قطع التلي التاريخية المعروضة بأحد المتاحف
وعن محاولاتها تسجيل التلي كتراث مصري بمنظمة اليونسكو تقول هالة فودة: "أحلم بتوثيق كل ما يتعلق بالتلي وتسجيله كتراث مصري أصيل. لذلك، قمت بالبحث في تاريخ التلي وتوثيق مراحل ظهوره واحتكار محمد علي له في بداية القرن التاسع عشر وازدهاره في بداية القرن العشرين ثم اندثاره في منتصف القرن ثم إعادة إحيائه في التسعينات، وجمعت الصور القديمة والوثائق البحثية عنه، وأسعد عندما نتمكن من إعادة إحياء نموذج لقطعة قديمة ومميزة من قطع التلي التاريخية المعروضة بأحد المتاحف. هناك محاولات جرت بالفعل لتسجيل التلي كتراث مصري باليونسكو لكنها لم تكلل بالنجاح بعد. حاليا أسعى للاطلاع على تفاصيل الملف والمساعدة في استكماله مع المسؤولين من وزارة الثقافة من أجل تقديمه لليونسكو مرة أخرى".
نجحت هالة فودة في دمج التطريز التقليدي مع الخامات العصرية من خلال استخدام الأقمشة المصنوعة من القطن والكتان والحرير الطبيعي إلى جانب التلي التقليدي، لذلك لاقت فكرة تطوير التلي وإعادة إحيائه استحسان الكثيرات من عاشقات هذا التراث فأقبلن عليه.
النهوض بالبيئة المحلية
تروي فودة: "أحرص على انتقاء الأقمشة المصنوعة يدويا على النول من قرى الصعيد المصري مثل أخميم ونقادة، وذلك لأن من أهدافي النهوض بالبيئة المحيطة بالتلي من مختلف النواحي، بداية من السيدات اللاتي يقمن بالتطريز والحياكة وكافة تفاصيل الزي، إلى صناعة القماش الطبيعي اليدوي عالي الجودة على النول الصعيدي، والذي يواجه صعوبات أسعى إلى حلّها، حتى لا تندثر هذه الصناعات اليدوية الأصيلة. لذلك فأنا لا أعتبر أن ما أقوم به هو تصميم أزياء بالمعنى المتعارف عليه وإنما اهتمام بالتراث ومحاولة الإبقاء عليه والتعريف به وإعادة إحيائه وتمكين العاملات به من الحصول على المكانة التي يستحققنها. وعلى مدار العامين الماضيين، ومع تكرار سفري إلى سوهاج لمتابعة العمل، توطدت علاقتي الإنسانية بعفاف شريكتي في تطوير التلي وبالمجموعة التي تعمل معي والتي تضاعف عددها وزاد إبداعها".
ترفض هالة فودة اعتبار التلي "حرفة " يدوية: "لأنه بالفعل فن تراثي ومن يمارسنه فنانات مبدعات، ربما لم ينل بعضهن حظه التعليم، لكنهن جميعا موهوبات بالفطرة".
هذا الفن معرض للاندثار مجددا إن لم توضع حلول نهائية. فخيوط التلي تُستورد حاليا من الهند، ومع صعوبة الاستيراد والأزمة الاقتصادية، نواجه أحيانا نقصا في الخيوط يؤدّي إلى تقليص حجم العمل وتدريب فتيات جدد
تواجه د. هالة فودة صعوبات عديدة في رحلتها مع إعادة إحياء التلي. تقول: "هذا الفن معرّض للاندثار مجددا إن لم يتم إيجاد حلول نهائية. فخيوط التلي التي كانت قديما مصنوعة من الذهب والفضة الخالصة، والتي كان محمد علي قد خصص لها مصنعا بالقاهرة، تُستورد حاليا من الهند، ومع صعوبة الاستيراد والأزمة الاقتصادية، نواجه أحيانا نقصا في الخيوط يؤدّي إلى تقليص حجم العمل وتدريب فتيات جدد. كما أن إنتاج نسيج التلي القطني المستخدم يواجه مشاكل متعلقة بتوفر خيوط الغزل، وهي عقبة تغلبت عليها باستخدام خامات أخرى كالقطن والكتان والحرير. كما تمثل صعوبة تطريز التلي واختلافه عن كافة أنواع التطريز الأخرى، عقبة بسبب إحجام الأجيال الجديدة عن تعلمه".
وتختم فودة بالقول: "على الرغم من تفرد التلي كتراث مصري أصيل نجح في إبهار مصممي الأزياء العالميين ونجوم السينما، إلا أنه ما زال غير معروف بالقدر الكافي بين سيدات المجتمع المصري ولم يحظ بعد بالمكانة التي يستحقها".
رواية
إلى جانب اهتماماتها الفنية والتراثية، انتهت د. هالة فودة من كتابة روايتها الأولى والتي تحمل عنوانا مؤقتا هو "في قلبي رضا". عن هذه التجربة تقول: "بحكم عملي الجامعي كأستاذة للأدب الفرنسي متخصصة في أدب السيرة الذاتية، تستهويني الكتابة الذاتية وأدب البوح بصفة عامة. ومنذ عدة سنوات راودني حلم الكتابة لكن مأزق البوح وصعوبته كانا يدفعانني إلى التراجع عن الكتابة، إلى أن تمكنت من التغلب على ذلك، وبدأت منذ عامين أسطر أول كلمات روايتي عن سيرة والدي الراحل. رحلة الكتابة الذاتية تشبه الإبحار وسط عاصفة، كنت أحاول الخروج منها بأقل الخسائر، أتعثر أحيانا فأدع الكتابة جانبا، تلحّ علي فأعود لأمسك بقلمي، أجتاز جزءا من النص فأشعر بالارتياح، أخوض غمار الأحداث فأرى الشاطئ يلوح. أحيانا كنت أشعر أن والدي جالس إلى جواري يمليني وأنا أكتب، وأحيانا كانت والدتي تفاجئني بوثائق تخصه كتبت بخطّ بيده، في الوقت الذي أكون أبحث فيه عما يجب أن أكتبه عن مرحلة معينة من مراحل حياته، فأندهش وأدرك أن لا شيء يحدث صدفة. انتهيت من روايتي وأتمنى أن تجد طريقها للنشر قريبا، وإن كانت رحلة الكتابة في حد ذاتها واكتمال النص هما مبعث شعوري بالرضا".