أن تقرأ في منزل الكاتب الراحل هنريش بول (1917 - 1985) بالريف الألماني، ثلاثية عقل العويط الشعرية - "الرابع من آب 2020" و"آب أقسى الشهور يشعل الليلك في الأرض الخراب" و"البلاد"، الصادرة تباعا عن "شرق الكتاب" و"دار نلسن" و"منشورات نوفل"، بيروت، 2021 و 2022 - وأن تخبر النزيلة الإيرانية مثلك في المنزل عينه أنك ثقرأ شعرا عن فاجعة بيروت ولبنان، لا بد أن يسري بينكما شعور صامت ومفاجئ بأنكما فارّان من كارثتين قد تكونان متشابهتين.
فالنزيلة الإيرانية عايشت انتفاضة بلدها الأخيرة بعد فاجعة قتل الشابة مهسا أميني في 16سبتمبر/أيلول 2022، وما تلاها من إعدامات. وعايشت كذلك فاجعة طي صفحة تلك الانتفاضة التي استمرت شهورا، مثل انتفاضة 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019 المديدة في لبنان. وأضيفت الانتفاضة الإيرانية إلى أرشيف الانتفاضات السابقة الكثيرة والمتعاقبة بلا جدوى مباشرة وملموسة. أما الانتفاضة اللبنانية فوضع لها انفجار مرفأ بيروت بنيترات الأمنيوم خاتمة مفجعة.
وهنا لا شيء في الريف الألماني الهادئ والمطئن - ريف شمس الصيف الخافتة ورذاذ مطره الناعم - يذكر بانتفاضات وحروب ومحارق، كأنما هذه طُويت من دهر في بلد المحرقة النازية. هذا فيما نزلاء منزل هنريش بول (كاتب وسينمائي من لبنان، كاتب أوكراني شاب، وسينمائية إيرانية) جاءوا إلى هنا للعثور على لحظات انعتاق من حرائق بلدانهم وجروحها النازفة.
كأن صاحب ثلاثية الفجيعة لبناني أخير، لا شفاء له من لبنان إلا بلبنان نفسه. فهو ربما اللبناني الأخير المطعون بالأمل، والموعود والواعد بالخلاص
أما الفاجعة اللبنانية التي يرويها عقل العويط في ثلاثيته الشعرية، فيشكل انفجار مرفأ بيروت الكارثي – الذي حلّت قبل أيام ذكراه الثالثة - أحد فصولها التاريخية الأقسى. وهي رواية جنائزية يائسة وعدمية، قياميّة وتوراتية وإنجيلية، وإليوتية أخيرا (نسبة إلى الشاعر البريطاني - الأميركي تي. أس. إليوت، صاحب "الأرض الخراب" أو اليباب).
وقدر ما هي ماحقة تلك الفاجعة، في واقعها الحي الماثل، تحتاج لتتجسد في الرؤية الشعرية - حسبما يظهر في ثلاثية عقل العويط - إلى أصداء من طوفان نوح، سفر أيوب، سفر الخروج، ووعود أو نبوءات أشعيا بالخلاص والمخلص. وتحتاج أيضا إلى "فصل في الجحيم" (رامبو). ذاك أن عقل العويط لا يرضى بأن يموت لبنان، لبنانه، يُطمر كأنه لم يكن، بلا جناز يرفع فجيعته إلى مرتبة الملاحم.
أغلفة الثلاثية مع لوحة للرسام اللبناني منصور الهبر
ولبنان الثلاثية هذه، والذي سقط وتعوّد السقوط دوريا في الجحيم كأنه يسقط في مطهر، هو لبنان أسطوري. أي ذاك الذي قيل مرة إنه مثل "طائر الفينيق الذي ما إن يحترق ويموت، حتى ينبعث من رماده". لكنه أيضا ومن وجه آخر، لبنان اليومي الغارق في التفاهة والحضيض والسفاهة والسفالة والتحلل والنَتَن والمروق. أي لبنان الذي يكتب صاحب الثلاثية في "الرؤيا 13" من "البلاد" أن من يتحكمون به وبمصيره "جميعهم فُسَّاق جماعة غادرين. جعلوا بيت لبنان رُجَما وجعلوا المدن بلاقِع".
لكن بعد كل عبارة وجملة وكلمة من هذا النوع الذي جعلوه من صفات لبنانهم، هناك الوجه الآخر للبنان عقل العويط الشاعر. وقد يحلو له أن يسميه "لبنان الشاعر"، وربما يضيف: الذي كان. وكأن صاحب ثلاثية الفجيعة لبناني أخير، لا شفاء له من لبنان إلا بلبنان نفسه. فهو ربما اللبناني الأخير المطعون بالأمل، والموعود والواعد بالخلاص، والمحرض على النهوض والقيامة حتى الخلاص: "لا بد من إسفين في الجدار". جدار اليأس والعدم والعبث. "جدار الكذبة الكبرى (...) وإن لم تجد في حجّتِك في هجسك رفاقا وحلفاء، فعليك أن تفعل وحدك".
وها هو يهتف: "المشانق المشانق. ما أطيب المشانق والأحكام العرفية (...) وفي هذه الساعة (القيامية) تمشي امرأة حرّة في العاصفة تصرخ في العاصفة، أشجار تمشي معها وحدائق وأطفال وموتى وكتب وسعف نخيل تهتف هلّلويا لأعواد المشانق (...) هلّلويا للبلاد".
في الفصل الأول من ثلاثية الفجيعة اللبنانية (الرابع من أغسطس/ آب 2020) يتقدم الوصف، تتقدم الأسئلة الشعرية والوجودية، على الرؤى والأساطير والأحكام والإحالات والتأويلات والوعود، "وعود الضفة الأخرى" التي "كنتُ - يكتب الشاعر- دائماً كثير الشكوك (في) سُبل العبور" إليها، و"يسميها المؤمنون طريقا". وعقل العويط من هؤلاء المؤمنين على الأرجح، وليس منهم كذلك. فـ "وجود ضفتين،/ ألا يفترض وجود نهر بينهما؟"، يكتب.
لكن عقل العويط، على قدر يأسه المفجع والكبير بلبنان، مضطر أن يكون المؤمن الأخير بلبنان. لذا ينهي معارضته إليوت بأن "بيروت التي لم تعد هي إياها، ستعود إياها حتى الشروق، وهي لا تريد يا إليوت أن تموت"
وتنهمر الأسئلة: "كيف أصفك يا بيروت قبل الساعة السادسة وسبع دقائق؟" من ذاك الثلاثاء، ثلاثاء الرابع من آب؟ وبعد تلك اللحظات "كيف أصفك (...) كل ما في الأمر/ أنني كنت ميتا/ فكيف لميت أن يصف؟!". أما "الأطباء" فيسمون "تلك اللحظات حشرجات". ورغم أنني "لست شاهدا (...) أروي (...) كما لو كنت رأيت/ (...) كما لو كنتُ أرى".
ومن مشاهد مساء الثلاثاء ذاك، ثلاثاء الرماد: "رائحة بكاء إسمنتي تُجنِّزُ هواءك المريض". و"عواء القصدير في الهواء"، في "مدينة الكبريت والصدأ". و"البنّ المشوي" و"الغيمة التي من جوفك رفعت الأرض إلى السماء"، "في العتمة/ في الفحم الذي يكحّل الهواء". وهناك تلك "اللوحة التي طارت من المكتب لتحط على شجرة سمير قصير"، وسط "المطر السّفيه/ وحشرجات التنك".
وبعد هذا كله وأمثاله: "فحمةٌ هي المدينة/ فحمة هي الحياة". لكن مهلاً، لا بد من صرخة: "لا تقفلوا التوابيت/ لا تسمّروها بالمسامير". فجأة تتبدّد هذه الصرخة وغيرها الكثير، في اليأس والعدم، ما دام "قتلاكِ لن يُذكروا في كتاب، كمن عُلّق على خشبة، ودَحرَج من ثم، في اليوم الثالث، حجرا عن قبر". فـ "كيف (إذا) نصفّي ثأرنا مع هذا الليل؟!". وهنا لا بد من التضرّع: "خذوني إليه (لبنان)/ لتبيت حياتي/ على رخامة الضرير/ أو جيئوا به إلي/ ليستلقي، هو، فوق يبابي الكسير". أخيراً لا بد من معجزة أو أعجوبة: "لا بد من مسيح/ ليمشي على مائك(بيروت)/ لا بد من جروح يديه".
مرفأ بيروت المتضرر جراء انفجار 4 أغسطس/آب 2020
وفي الفصل الثاني من الثلاثية (آب أقسى الشهور يشعل الليلك في الأرض الخراب) يستنجد الشاعر على الفجيعة اللبنانية والبيروتية بإليوت، بادئا "بالنفي، خجلا من رحاب اليقين". فـ "النفي هو اليقين الوحيد". و"نيسان (نيسانك) ليس هو أقسى الشهور، يا تي. إس. إليوت". ولا أرضك هي أرض الخراب أو اليباب. "هذه بيروت، يا تي/ لذا تراني أبدأ بالنفي لأنه يقين".
ويدعو العويط صاحب "الأرض اليباب" لاستضافته في بيروت: "بودي أن نتجالس على مرمى أكوام الألمينيوم والتنك (...) هل سمعت يوما بنيترات الأمنيوم، يا سيد إليوت؟". وهنا يتخلى شاعر الفجيعة عن البيان الشعري إلى بيان النثر: "شحنة النيترات جيء بها، لتُوزع حيث يجب، وتُلقى حيث يجب، وليبقى منها هنا ما يجب". لذا يدعو صاحب القصيدة الشهيرة إلى إعادة كتابتها في ضوء أن أقسى الشهور هو "آب/ أغسطس، بدلاً من نيسان/ أبريل".
لماذا؟ لأن "الشعر ليس يقينا، إنه احتمال/ والموت (الذي ماتته بيروت) هوَ اليقين، لكنه ليس الوحيد".
لكن عقل العويط، على قدر يأسه المفجع والكبير بلبنان، مضطر أن يكون المؤمن الأخير بلبنان. لذا ينهي معارضته إليوت بأن "بيروت التي لم تعد هي إياها، ستعود إياها حتى الشروق، وهي لا تريد يا إليوت أن تموت".
وفي الفصل الثالث من الثلاثية (البلاد)، لا بد من رؤيا: "على نبوءة أشعيا، استقيلي من الأمة الخاطئة من الشعب الموقّر بالإثم ذرية المجرمين".
وأخيرا لا بد من ترنيمة: "قمرك واحد شمسك واحدة، باشري عمرك الثاني بالوضوح بالاعتراف. كلما بان شقاؤك أشرقتْ ضرورتك. كلما ازددت شقاء اشتعلتِ معنى. بالشقاء الطيب تولدين بالشقاء النقي تتعمدين به تتحصنين وتعمرين".
