قبل "التغيّر المناخي": طوفان الخليج وبراكين سوريا وتسونامي إيجةhttps://www.majalla.com/node/296981/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D9%82%D8%A8%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%BA%D9%8A%D9%91%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%86%D8%A7%D8%AE%D9%8A-%D8%B7%D9%88%D9%81%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AE%D9%84%D9%8A%D8%AC-%D9%88%D8%A8%D8%B1%D8%A7%D9%83%D9%8A%D9%86-%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A7-%D9%88%D8%AA%D8%B3%D9%88%D9%86%D8%A7%D9%85%D9%8A-%D8%A5%D9%8A%D8%AC%D8%A9
يتوهّم كثير من أبناء زمننا بأن الكوارث البيئية والتغيّرات المناخية، وليدة عصر الثورة الصناعية وما نتج عنها من انبعاثات أدّت إلى الاحتباس الحراري وتوسع ثقب الأوزون. لكن السجلات الأثرية، ودراسات المسح الجيولوجي والمورفولوجي بيّنت أن الكوارث صفة ملازمة لسيرورة كرتنا الأرضية، منذ نشأتها قبل نحو أربعة مليارات عام ونصف المليار، حيث كانت المتغيرات البيئية مسؤولة عن انقراض أو ظهور حضارات، وثقافاتوممالك ومدن، تماما كما كانت مسؤولة عن انقراض أو ظهور أنواع وأجناس حيوانية ونباتية.
يمكن القول إن أهم حدث بيئي أثّر في تاريخ الحضارة البشرية هو طوفان الخليج العربي، فمنذ سنوات قليلة بدأت الدراسات الآثارية، والمسوحات الجيولوجية تميط اللثام عن ألغاز هذا الطوفان العظيم الذي تتردّد أخباره في أساطير السومريين والبابليين، ومن بعدهم في الكتب المقدّسة، الأمر الذي يكسب هذه الأساطير بعدا تاريخيا يرتبط بمتغيرات مناخية كبيرة حدثت في المنطقة نتيجة انحسار العصر الجليدي الأخير (قبل مائة وعشرة آلاف عام إلى عشرة آلاف عام).
وما يعزّز تلك العلاقة، بين المكتشفات الحديثة في سواحل وقعر الخليج العربي، وبين أسطورة الطوفان السومرية، ذلك الاقتران المدهش لتلك الأسطورة بجنة دلمون المفقودة التي تسمّى "أرض النجاة"، والتي توصّل علماء الآثار منذ سنوات بعيدة إلى أنها جزيرة البحرين، وهي الجزء المرتفع الذي نجا من ارتفاع منسوب البحر قبل أحد عشر ألف عام بحسب المكتشفات والمسوحات الأخيرة.
وتقول أسطورة الطوفان السومرية، وهي أول قصة مدوّنة حول هذا الحدث العالمي الكبير، إن الإله أنكي حذر الملك- الكاهن زيوسودرا من أن الآلهة قرّرت إرسال فيضان لتدمير الجنس البشري بسبب الخطايا على الأرجح، ونصحه بأن يبني سفينة ضخمة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وبعد سبعة أيام من العواصف القوية نجت السفينة، وعندها ظهر إله الشمس أوتو فتح زيوسودرا نافذة السفينة وسجد شكرا للآلهة، وتوجه للسكن في دلمون "مكان شروق الشمس".
أهم حدث بيئي أثّر في تاريخ الحضارة البشرية هو طوفان الخليج العربي الذي تتردّد أخباره في أساطير السومريين والبابليين، ومن بعدهم في الكتب المقدّسة
وتضيع تفاصيل هذه القصة بسبب الخراب الكبير الذي لحق بالألواح التي دوّنت عليها، ولكن ثمة تفاصيل أخرى تظهر في ملحمة جلجامش الشهيرة تتحدّث عن تلقي جلجامش أمرا من الآلهة بأن يبني سفينة، وأن يترك أملاكه جميعا، وألا يحمل على ظهر السفينة سوى البذور، وبعد نزول المطر تنجو السفينة وتستقر على جبل نيزيز. ومرة أخرى تظهر دلمون كنهاية لملحمة جلجامش، حين غفا على حافة البحيرة وترك عشبة الخلود لتأكلها الأفعى.
مستويات مياه الخليج
ولنتأمل الآن نتائج المسوحات الجيولوجية والأثرية لمنطقة الخليج، والتي وصلت خلال السنوات الماضية إلى قعر المياه، حيث عثر هناك على بقايا مستوطنات بشرية باتت مغمورة بمياه البحر. وبيّنت المسوحات أن مستويات البحر في الخليج ارتفعت وانخفضت بصورة حادّة خلال المئة ألف عام الماضية أكثر من مرة، بحيث رسمت خطوط الشواطئ ومحتها مرات عديدة. وكان ذلك المحو والرسم واضحين إلى درجة يمكننا تمييزهما الآن بالعين المجرّدة في الترسبات البحرية المكوّنة لصخور الشاطئ، وبعيدا عنها في عمق اليابسة.
وهذه التقلّبات الدراماتيكية، نتجت بالدرجة الأولى عن تقدّم الأنهار الجليدية وانسحابها إبان تتابع عصور الجليد المتلاحقة والفترات التي تخللت الزحف الجليدي. وكان من نتائج تشكل طبقات الجليد السميكة، حجز كميات هائلة من المياه، مما أدّى إلى خفض مستوى البحار والمحيطات في أنحاء العالم جميعها.
وثمة دليل على أنه في الفترة ما بين ستة وثلاثين ألف عام وعشرة آلاف عام مضت، انحسرت مياه البحر بمقدار مئة وعشرة أمتار تحت المستوى الحالي، تاركة قعر الخليج الرملي مكشوفا. وكان الخليج في ذلك الزمان سهلا واسعا مرويا بنهري دجلة والفرات اللذين كانا يصبان مباشرة في خليج عمان. وفي تلك الفترة تشكلت في قعر الخليج بحيرات مياه عذبة تحيط بها مزروعات وحقول وغابات أشجار مثمرة، بحسب دراسة أعلن نتائجها البروفسور ريتشارد كوتلر.
نهر جليدي في الربع الخالي
وأثبتت دراسة أخرى كان قد أنجزها البروفسور ماك كلير قبل عقود في الربع الخالي، جنوبي شرقي المملكة العربية السعودية، وجود نهر جليدي واسع كان يمتد من الربع الخالي إلى الخليج عبر جبال عمان، في الفترة الواقعة بين ثلاثين ألف عام إلى سبعة عشر ألف عام من الوقت الراهن، في الجهة المقابلة لمصب دجلة والفرات في خليج عمان. وقبل أحد عشر ألف عام بدأت عودة البحر التدريجية إلى الخليج، بمعدل مترين إلى أربعة أمتار سنويا. وبيّنت مسوحات ماك كلير أن بقايا الأنهار الجليدية الساحلية بقيت فعالة خلال الفترة الواقعة بين تسعة آلاف وستة آلاف عام من الوقت الراهن، في الوقت الذي كان فيه مستوى البحر يرتفع بشدة بسبب الذوبان المتسارع للجليد.وكان من نتيجة ذلك أن أصبحت جزيرة البحرين مفصولة عن البر منذ سبعة آلاف عام، وكأنها أصبحت أرض النجاة من الطوفان فعلا.
عصور رطبة
وتشير المسوحات إلى أن منطقة الخليج عاشت مرحلة رطبة في العصر الحجري الحديث (من عشرة آلاف إلى ستة آلاف عام من الوقت الراهن)، ظهرت فيها ينابيع نشطة وبحيرات على السواحل، مع زيادة طفيفة في هطول الأمطار تبعا لذلك. وظهر في هذه الفترة دليل واضح في شرقي الجزيرة العربية على تكون مستوطنات صغيرة، ربما كانت موسمية لأقوام كانوا رواد أكثر صناعات الخليج بقاء، وهو ما يستدلّ عليه من الدليل الذي تحمله أدواتهم، ألا وهو صيد اللؤلؤ.
وهناك فترة مناخية معطاءة بشكل ملموس في الفترة ما بين سبعة آلاف إلى خمسة آلاف عام من الوقت الراهن، تتزامن مع تكون وتفتح أهم الظواهر الثقافية والاجتماعية، وهي الجماعات التجارية الناجحة في دلمون (البحرين الحالية) ومجان (عمان والإمارات حاليا)، والتي كانت تشكّل امتدادا لحضارة السومريين وتسمّى أرض البحر.
كارثة حرق غابات الخليج
وثمة ملاحظة لافتة تنبّه إليها بعض العلماء تتعلق بظاهرة الاستخراج المفرط للنحاس من جبال عمان والإمارات العربية المتحدة خلال العصر البرونزي، والذي كلّف مناخ هذه البلاد الكثير على ما يبدو، إذ أن صهر النحاس وتحويله إلى سبائك كان يحتاج إلى كميات هائلة من الطاقة، وعلى فترات طويلة من الزمن، فكان أن فقدت البلاد غطاءها الغابي، في واحدة من أولى الكوارث البيئة المعروفة في تاريخ البشرية التي تسبّب بها الإنسان، وكان هذا أحد الأسباب الرئيسة في التصحّر وارتفاع درجات الحرارة في شبه جزيرة عمان خلال الحقب التالية، بحسب الباحث مايكل رايس في كتاب "الآثار في الخليج العربي".
ومن الملاحظات التي لفتت أنظار المسّاحين وفرق التنقيب الآثاري أن مواقع العصرين الحديدي والهلنستي، تقع في الجهة الشرقية من إمارة الشارقة، إذا ما قورنت بمواقع عصور ما قبل التاريخ. وجاء التحليل المناخي والمورفولوجي ليؤكد أن انفصال خط الساحل أدّى إلى اتساع البحيرات المالحة قبل انتشار ظاهرة الردم، حيث كان مستوى سطح البحر أعلى بثمانين سنتمترا قبل العام 1470 من الوقت الراهن استنادا إلى تحليلات الكربون 14. ونتيجة المناخ الجاف والحار أصبح من العسير على الإنسان الحصول على الماء قرب الساحل. باستثناء أماكن قليلة، كموقع الدور قرب مدينة أم القيوين.
وهكذا، رسم المناخ القاسي والمتبدّل، ومحدودية الأرض الزراعية، وقلة المياه الصالحة للشرب، مصير هذه البلاد، وفرض عليها نمطا من الإنتاج لم يكن هنالك من سبيل لتغييره، من حيث قلة السكان ونوعيتهم وتخصصهم باستخراج اللؤلؤ أو ممارسة التجارة البحرية أو البرية.
براكين جنوبي سوريا
وثمة كارثة بيئية وقعت في منطقة جنوبي بلاد الشام، وتحديدا في المنطقة الممتدّة من جنوبي دمشق إلى إربد في المملكة الأردنية الهاشمية أدّت إلى انقراض ثقافة العصر الحجري- النحاسي قبل حوالي ستة آلاف عام من الوقت الراهن. ومن المرجح أن سكان البلاد قد نزحوا خلال هذه الفترة إن لم يكن عدد منهم قد قضى نتيجة هذه الكارثة.
كان صهر النحاس وتحويله إلى سبائك يحتاج إلى كميات هائلة من الطاقة، فكان أن فقدت البلاد غطاءها الغابي، في واحدة من أولى الكوارث البيئة المعروفة في تاريخ البشرية التي تسبّب بها الإنسان
وقد لاحظ العلماء من خلال مسوحاتهم الجيولوجية والأثرية أن آخر ثوران للبراكين في المنطقة كان قد حدث في منطقة اللجاة قبل نحو ستة آلاف عام، أي في الفترة التي انقرضت فيها ثقافات العصر الحجري- النحاسي. والغريب، بحسب علماء الآثار، هو بقاء حاجيات المنازل، بما في ذلك أدوات العمل والزراعة الثقيلة وحتى التماثيل، على حالها.
تسونامي شعوب البحر
ومنذ سنوات يعكف علماء الآثار والجيولوجيا والمناخ على دراسة تأثير الكوارث البيئية على الحضارة المينوسية في بحر إيجة منذ منتصف العصر البرونزي، وصولا إلى نهايته في العام 1200 قبل الميلاد، وهي كوارث أدت إلى تغير مسار التاريخ، وظهور ما يعرف بالعصر الحديدي.
وتُعزى كارثة منطقة بحر إيجة إلى استنفاد الانسان للغطاء الغابي في جزر قبرص وكريت وغيرها بسبب مناجم صهر البرونز التي كانت تحتاج إلى كميات هائلة من الأخشاب. ونتيجة لذلك حلّ الجفاف في المنطقة، وانتشرت الأوبئة، فتسبّب ذلك بالمجاعات وانهيار التجارة والاقتصاد. ومن المعروف أن سلة الغذاء التي كانت الإمبراطورية المينوسية تعتمد عليها في منطقة شمالي البحر الأسود فقدت فجأة نتيجة الكارثة البيئية.
وأضيف إلى ذلك ثوران بركان ثيرا الشهير في جزيرة سانتوريني شمالي جزيرة كريت، والذي تسبّب بتغير المناخ وحدوث زلازل كبيرة في قعر البحر المتوسط أدّت إلى سلسلة من موجات التسونامي التي ساهمت بدورها في انهيار مدن الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، وعلى رأسها مدينة أوغاريت الكنعانية السورية، وغيرها الكثير من مدن تلك الحقبة.
وقد اقترنت هذه الانهيارات باندفاع شعوب بحر إيجة نحو سواحل بلاد الشام ومصر بقصد الغزو والنهب، وهي الظاهرة التي تتحدّث عنها الوثائق المصرية المكتوبة وتسمّيها غزوات شعوب البحر.