عُزلة الفيلم القصير

عُزلة الفيلم القصير

من المفارقة أن يبدأ تاريخ السينما بالفيلم القصير، قبل التحوّل إلى الفيلم السينمائي الطويل، وبدل أن يظلّ الفيلم القصير بحسب أسبقيته النوع الإبداعي البصري المستقل بذاته، والرهان الجمالي عليه رهانا تراكميا ونوعيا، انحسر في التقييم والتقويم الفنيين والمدرسيين في آن إلى مجرّد تجربة أولية لا بد من تخطيها في سيرة المخرج ورصيده، كتمرين يفصح فيه هذا الأخير عن مغامرته البصرية، بتجريب أدواته الخاصة والكشف عن رؤيته المفردة، مُشمّرًا عن ملامح مشروعه الإبداعي المُحْدَث.

بات الفيلم القصير بهذا التّقليد العتبة الصّلدة التي ينبغي للمخرج السينمائي أن يبرهن فيها عن مقدراته ومهاراته على نحو إشاريّ إشراقيّ وتلميحيّ، وهذا ما يختبره في امتحان الحيّز الضئيل للفيلم القصير، بالنظر إليه كلعبة خطيرة مؤسسة على التكثيف والإيجاز، غير قابلة لأيّ خطأ، غير متسامحة مع أي نشاز، إذ أيّ حبّة خردل من حفنةِ جمالياتها، زائدة أو ناقصة يمكن أن يختلّ معها عالمها التخييلي وبذلك فشل المحاولة.

على المخرج إذن أن ينجح بالضرورة في توقيع اسمه على مصطبة هذه العتبة الزّلقة، كي يتخطاها بظفر إلى تجريب إبداع الأفلام الطويلة.

هذا هو الشائع عالميًّا والمكرّس كقانون أو قاعدة، والأمر في محمول طويّته ينهض على ازدواجية وجهُها الأول قد يبدو ذا قيمة، ووجهها الثاني نقيض للأوّل، ينفي أو يلغي تلك الفضيلة لصالح نظرة أشبه ما تكون بالدّونية، غير لائقة بفنّ عريق، عتيق، راسخ الذات والشكل والاستقلالية.

الوجه الأوّل للمسألة يبدو علنًا تقديرًا للفيلم القصير، إذ أن هوية المخرج الفنية مشروطة باختبار إبداعيته في هذا النوع الخطير من اللعب السينمائي الذي يتطلب صرامةً في تدبير أشيائه، كما يتطلب حرصا بالغ الدقة في الموازنة بين إحداثيات مجزوءته المنفلتة. وكأنّ الكوجيتو السينمائي هنا يصدح بملء الوضوح: أنا صاحب فيلم قصير، إذن أنا مخرج سينمائيّ، أو بصوغ آخر: لا مخرج سينمائيا من دون فيلم قصير.

أن يرتهن نجاحُ المخرج السينمائيّ إلى مبدأ تجربته الإخراجية للفيلم القصير كشرطٍ، هو أوّلا وأخيرا، قيمة نوعية تسبغُ على الفيلم القصير معنى يتأرجح بين التقدير حدّ التقديس وبين التقعيد الذي يجعل منه الدرج الأولي الأصعب في سُلَّم الخلق السينمائي.

لكن الوجه الثاني للمسألة يناقض الأوّل، إذ يتعمّد التصنيف المعمول به مدرسيّا وميدانيّا أن يحصر الفيلم القصير ترتيبا وتقويما في حيّز الأوّلي، المبدئي، وكأنّ الفيلم القصير خُلق لكي يكون امتحان البدايات للتخطّي لا غير، وما أن يتوفّق مُجرّبُه في إخراجه مرّة أو مرتين أو ثلاث على أبعد قياس، حتى يتجاوزه لصالح الأفلام الطويلة دون أن يعود أو يلتفت إليه مرة أخرى.

وبذا أمسى الفيلم القصير محض جدارٍ قصيرٍ للقفز، ما أن يَثِبَ المخرج على مصطبته، حتى يمضي بعيدا بغير ما رجعة.

ما معنى أن يُجرّب المخرجون السينمائيون الفيلم القصير في بداياتهم إمّا كشرط مفروض عليهم بحسب قانون المهنة، أو كتقليد فنّي شائع في ثقافة الإخراج المتداولة عالميا، وبعد تجريبه مرّة أو مرّتين أو ثلاث يعتزلونه للأبد، محترفين إخراج الأفلام الطويلة لا غير؟

أليس في الأمر انتقاصا يضْمرُ نظرةً دونية للفيلم القصير المُرفَّف في عتبة البدايات وبالذات في طور التمرين اللابد منه؟

من ارتكب جُرم تصنيف الفيلم القصير على هذا النحو التّعسفي إذ ينتصب في خلفية التاريخ السينمائي أو التجربة البصرية كبركة هامشيّة يعْبرُ المخرجون صفحتها كطيور بجع في اتجاه ما هو أهم وهو محيط الأفلام الطويلة؟

 كأنّ الفيلم القصير خُلق لكي يكون امتحان البدايات للتخطّي لا غير، وما أن يتوفّق مُجرّبُه في إخراجه مرّة أو مرتين أو ثلاث على أبعد قياس، حتى يتجاوزه لصالح الأفلام الطويلة دون أن يعود أو يلتفت إليه مرة أخرى

ألا يستحق الفيلم القصير التزاما دائما بتجربة الإخراج والإبداع على نحو متعدّد: كأن يزاوج المخرج السينمائيّ في مشروع إخراجه بين الفيلم القصير والفيلم الطويل، يساوي ويوازن بينهما، تارة لذا وتارة لذاك بشكل متواصل وديمومي.

وَلِمَ لا يلتزم مخرجون سينمائيون بإخراج الأفلام القصيرة لا غير، بالمِثْلِ الذي نجده في أنواع إبداعية أخرى، كالقصة القصيرة خاصّة، وهي الأقرب إلى روح الفيلم القصير بالنظر إلى المشترك الجمالي بينهما، من حيث التكثيف والإيجاز وهامشية الرؤية وتقشّف الأدوات التي يستند إليها الخلق الفني فيهما معا؟ تماما ولماما، لماذا يوجد كتّاب عالميون وعرب التزموا بالقصة القصيرة كنوع أدبي أحادي ووحيد لكتابتهم دون هجرانها إلى نوع أدبي آخر أو تبديلها بطريقة إبداعية مغايرة، وظلوا مخلصين لها لدرجة تماهت أسماؤهم الشخصية مع شكلها الأدبي، أنّى ذُكِرَتْ هذه يطفو إلى السطح أؤلئك بالضرورة، هوراسيو كيروغا، ريونوسكيه أكوتاغاوا، أوجستو مونتيروسو،  أليس مونرو، زكريا تامر، سعيد الكفراوي وأحمد بوزفور... على سبيل المثال لا الحصر؟

من النادر حدّ العدم أن تجد مخرجا عالميّا وفيًّا للفيلم السينمائي القصير وحده على غرار القصة القصيرة، وبالمثل لا يوجد مخرج سينمائيّ بدأ تجربته الإبداعية بالفيلم القصير وبعد أن جرّب إخراج الأفلام الطويلة عاد إلى الفيلم القصير كي يختم به رصيده الجمالي.

مهما يكن من أمر، ثمّة اهتمام بالفيلم القصير عالميّا يؤكده الاحتفاء به ضمن مهرجانات خاصّة به، كمهرجانات: كليرمون فيران، وصندانس، وبالم سبرينغر، وبرلين، وأدنبرة، ومهرجان الفيلم القصير المتوسطي بطنجة، ومهرجان الإسكندرية... إلخ

غير أنّ  مجمل هذه الأفلام القصيرة المرشّحة لهذه المهرجانات الخاصة من طرف مخرجين أغلبهم صاعدين، تظلّ قيد التجربة الأولى، على سبيل المحك المؤهّل لهؤلاء نحو إخراج الأفلام الطويلة فيما بعد، وفي منحى ما سلف ذكره أعلاه، سواء تُوّج هؤلاء المخرجون أم لا في هذه المسابقات اللاهبة، فإنهم ينزعون بدورهم إلى تجارب إخراج الأفلام الطويلة دونما عودة مأمولة إلى تكرار العمل في الأفلام القصيرة بشكل موازٍ أو متواصل، ممّا يجعل الأفلام القصيرة شبه مهجورة، خالدة في عزلتها الأبديّة.

font change