في هذا الجانب يصف الباحث نبيل علقم عمل السيدة سميحة خليل رئيسة جميعة إنعاش الأسرة، التي وجدت بين الناس وتظاهرت في الشارع، في مقابلة شخصية أجرتها معه كاتبة هذه المقابلة:
"سميحة خليل شخصية قيادية، وهناك فرق بين القيادي المسؤول الذي يمتلك منهجا ورؤية ويعرف طريقه جيدا، وبين من يسعون إلى المركز والسلطة. أسست جمعية النساء الفلسطينيات بين عامي 1955-1956 وانتقلت الى غزة مع زوجها واضطرت إلى ترك الاتحاد النسائي، وحين عادت أسست جميعة إنعاش الأسرة واستقبلت الكثير من القادمين من عمواس ويالو وبيت نوبا، والذين هدم الاحتلال بيوتهم في الأيام الأولى من حرب 1967، كثير من العائلات هاجرت إلى رام الله، فبدأت سميحة خليل تعمل على مساعدة تلك الأسر، وكانت وموظفات الجمعية يقدن التظاهرات".
الناشطة الفلسطينية سميحة خليل، 73 عاما
حدثت تحولات على هذا النمط من النضال بعد مشروع الدولة الفلسطينية، إذ تضمن الخطاب بناء المؤسسات كنواة لهذه الدولة. وهذا التحول كان له أثر سلبي على نضال المؤسسات النسوية التي دمجت ضمن سياسات بناء هذه المؤسسات وسياسات التمويل، عبر خلق واقع مقيد من الحراك يوقعه الأفراد ذاتهم فيمارسون الرقابة الذاتية، وينسلخون عن مفاهيم الناس الأقرب إلى وعيهم، تلك المفاهيم التي تلامس همومهم اليومية والتي ترتبط بشكل أساس بوجود إسرائيل في حياتهم اليومية، فارتكزت بالتالي المشاريع المطبقة على إلزام هذه المؤسسات النسوية التوجه نحو فلسفة محددة في مشاريعها، فلسفة "الحوكمة، الشفافية، المساءلة، بناء الثقة، حل الصراع الخ"، والتي تمت بشكل أساس عبر ورش العمل واللقاءات التوعوية والتقارير والموازناتفي الفنادق الفخمة، دون أن يلمس الفلسطيني تأثيرا لهذه النشاطات على الأرض، وتغييرا في الهيمنة على حياته اليومية من قبل إسرائيل.
معوقات
أثناء ذلك، وبحسب الباحث إياد رياحي في مقالته "المال والسياسة وتشكل الخطاب الوطني" الصادرة العام 2010، يجري تصوير معوقات التنمية ذات العلاقة بوجود إسرائيل، على أنها معوقات فنية. ضمن هذا المستوى تراوح خطاب التنمية في دائرة "العيش يوما بيوم" بفعل الاعتماد الكلي على التمويل الخارجي، في الوقت الذي تمثل كل ما قدم للفلسطينيين ضمن هذه التنمية في هيئة اقتصاد من "الصدقات" لمنع شبح المجاعة عن الفلسطينيين، ولم يتم العمل أبدا على إحداث تنمية حقيقية.
ساهم هذا المفهوم السائد للتنمية بحسب ليندا طبر وعمر سلامانكا في مقالة "نحو اقتصاد سياسي للتحرر: قراءات نقدية للتنمية في السياق الفلسطيني" تأليف بعد أوسلو العام 2013، في عزل المنظمات النسوية وغيرها من الحركات الاجتماعية عن حركة النضال الوطني، وحدث ذلك عبر إعادة هيكلة مفاهيم التحرر ضمن مشروع، من نضال وطني وحركة تحرر وطني تشابكت في نضالها مع حركات التحرر في العالم الثالث. هذا أدى بدوره، كما ترى أشجان العجور في كتابها "تمثلات السلطة والمعرفة في الخطاب النسوي الليبيرالي" الصادر العام 2014، إلى تمييع الحركة النسوية، حيث تراجع الدور الوطني والسياسي،كما حدث ذلك من خلال إعادة إنتاج النضال ومفاهيم التحرر القائمة على الصمود اليومي الطويل، إلى العيش يوما بيوم، بفعل الأنشطة التمويلية التي تعتمد على الموازنات القصيرة، فتحولت النساء الفلسطينيات فيها من فاعلات في هذا الصمود عبر التضامن اليومي ونظام المقايضة والتعاونيات، إلى "مستفيدات" ضمن ورش عمل يحاضر فيها خبراء فلسطينيون ودوليون، من دون ممارسة نضال ميداني حقيقي، ومن دون تفكيك السياق الذي تعيشه فلسطين.
هوجم الشارع الفلسطيني، كمكان للرفض، من خلال مصادرة الوجود فيه؛ الوجود بين الناس وهمومهم. أدى الانتقال نحو بنية مؤسساتية بيروقراطية متراتبة تحت مبرر "التحديث"، في داخل هذه البنية المؤسساتية، إلى خلق ديكتاتورية صوتية، مارستها القيادات النسوية تجاه أصوات الأعضاء الآخرين، بدعوى القيادة. فبعدما كانت مسؤولية القيادة مسؤولية تشاركية في هذه المؤسسات تحت الحكم العسكري، تحولت إلى ديكتاتورية صوتية تمتلكها المسؤولة العليا في المؤسسة، وعلى الآخرين الانصياع لآرائها دونما نقاش حقيقي، وهذا يعني أن الشعارات الكثيرة لا تحدّد أفعال هذه المؤسسات بقدر ما يحدّدها السياق الذي تعمل به هذه المؤسسات.
قام السياق النسوي تحت الحكم العسكري على مبدأ ممارسة التحرر والاعتماد على الذات ونظام التكافل الاجتماعي والصمود اليومي للبقاء، في حين نجد أن هذا السياق استند، بعد قيام السلطة الفلسطينية، على دخول فاعلين جدد حملوا بأيديهم عصا التمويل.
تحوّل
تستند أميرة سلمي في مقالتها "المنظمات غير الحكومية أداة للتنمية: مراجعة مفاهيمية"، في كتاب "وهم التنمية" الصادر عام 2010، على توضيح ريما حمامي للتحول الذي وقع على الحركة السياسية المحلية والتنظيمات الجماهيرية بعد إقامة السلطة الوطنية الفلسطينية. فقد حولت شروط التمويل الخارجي هذه الجماعات إلى منظمات للنخب المهنية، مع وجود خطاب حول الكفاءة والخبرة، فيما عمل هذا الترتيب الجديد على خلق مسافة بين المنظمات غير الحكومية وعامة الناس، ومن ثم أصبحت النشاطية السياسية للمنظمة غير الحكومية نشاطية القادة لا نشاطية ملايين من الشعب المستهدف. فهذه المنظمات غير الحكومية تخدم بشكل أكبر موظفيها والمستفيدين المستهدفين منها، وأثناء ذلك نجد أن التنظيم أصبح مفهوما رماديّا ارتبط إما بالبنية المؤسساتية أو بوجود الفصائل الفلسطينية، وغاب، أو ضعف، في وعي الفلسطينيين، أن التنظيم إطار جماهيري مكانه الشارع.