للجدار العربي نصيب من الخربشة الجدارية كما يطلق عليها بعضهم، أو خطاب الصمت، وهو ذلك النصّ الخربشي الذي يفتقد لاسم كاتبه (إن جاز لنا تسميته كاتبا) لأنه ينتهك الأعراف والأطر الاجتماعية والأخلاقية، مما يؤدي إلى نفور المجتمع منه وضيقهم به وإقصائه تبعا لذلك عن بنية الثقافة المكتوبة التي لا تعترف بنصٍّ لا صاحب له، وهذا التغييب المتعمد لاسم منشئ النص يستدعي وصفه بالنص اللقيط نظرا لفساده وتشويشه وكثرة من تعاقبوا على كتابته.
تتعرض ذاكرة "خطاب الصمت" للمحو والإزالة، كتلك الحملات المكثفة التي تقوم بها بعض المدارس في مطلع العام الدراسي، وقبل الاختبارات النهائية لإزالة ما على المقاعد من كتابات، لطمس ذاكرة أولئك الذين تعاقبوا على الكتابة عليها طوال عام دراسي، كما تمحو بلديات المدن وبعض المواطنين ما يُكتب ويُرسم على الجدران، فتزول بهذا الطمس الذاكرة ويزول معها تاريخها المشاغب والمعيب.
هنالك جملة من الأسباب التي تجعل المقاعد وكافة الجدران والأبواب مدونة وذاكرة تعكسان ما يجول في أذهان الجماعات المهمشة في المجتمع، منها أسباب نفسية تتعلق بنفسية الكاتب أو المخربش وما فيها من مشاعر وأحاسيس ورغبات سوية وغير سوية، وأسباب تربوية تتعلق بالجو التربوي الذي يعيش فيه سواء كان البيت أو المدرسة أو الحي، وما يمارسه المجتمع التربوي كصرامة التوجيهات والمبالغة في المحاسبة، وأسباب اجتماعية تتعلق بواقعه في محيطه الاجتماعي ووضعه العائلي أو الطبقي أو الطائفي وما يعانيه من إقصاء وتهميش.
تنطبق هذه الأسباب بشكل خاص على أولئك الذين أدمنوا الكتابة على الجدران، وأسوار البيوت والمؤسسات ومقاعد المدارس، وما تحمله بعض تلك الكتابات من عبارات خارجة يمجها الذوق وترفضها القيم والآداب العامة وتقاليد المجتمع، فضلا عما تسببه من تشويه متعمد للممتلكات العامة والخاصة وإفساد للذوق والمنظر العام في المدن بعبارات ورسوم تخدش الحياء، ما يعطي انطباعا سلبيا عن الذين يكتبونها واعتقادً بعجز المؤسسات المسؤولة عن علاجها.
هنالك جملة من الأسباب التي تجعل المقاعد وكافة الجدران والأبواب مدونة وذاكرة تعكسان ما يجول في أذهان الجماعات المهمشة في المجتمع
غير أن نصوص الخربشة على المقاعد الدراسية أخف وطأة مما يشاهد في الشوارع من حيث خلوها من الألفاظ والعبارات الساقطة؛ لأنها تنفيس عن طاقات كامنة لم تجد من يحسن استثمارها وتوجيهها وجهة صحيحة. ويمكن تصنيف تلك النصوص بما يلي:
الأول: نصٌّ رافض ومشاكس موجه للمؤسسة التعليمية بصفتها سلطة أبوية فارضة لقوانينها وخانقة لحرية التعبير ومغيبة لفضاءات الحوار وتبادل الآراء، ولذا فإن خطاب الخربشة المدرسي خطاب كاشف يشي بضعف كاتبه أمام سلطة القانون (الأب الثقافي والتربوي والاجتماعي)، فعبارات السخرية والصفات السلبية التي يوصم بها هذا الأستاذ أو ذاك هي الوسيلة التي يسلكونها للتعبير عن رفضهم للسلطة، وقد لا يكون العنف المؤجج للخطاب الخربشي موجها للأستاذ في ذاته بقدر ما هو احتجاج لاشعوري ضد النظم التقليدية السائدة في الجو التعليمي العام، وبما أن الأستاذ هو الذي يمثل هذه المؤسسة وذلك النظام، فإن العنف اللفظي الذي يحفل به الخطاب الخربشي يوجه له على نحو خاص.
والثاني: نصٌّ عبثي لا يبالي بما يجري في قاعة الدرس، وهو ذلك الذي يحتل المقاعد الخلفية في القاعة الدراسية، يتجه هذا النوع للتعبير عن ذاته بواسطة الرسوم، ففي بعض كليات البنات تُرسم (قلوب، وجوه، عيون، شموع، أزياء، قصات شعر)، كما يعبرن بالأغاني وبالشعر الفصيح والعامي، وبمقاطع حوارية متبادلة أثناء المحاضرة، كالتساؤل عمّا بقي من وقت المحاضرة، والإعلان عن الملل والشعور بالنعاس والضيق بالطالبات اللاتي يسألن الأستاذة ويناقشنها، والرغبة في عدم حضور المحاضرة التالية، والاتفاق على تبادل الزيارات أو الذهاب إلى الأسواق التجارية والمطاعم، وغير ذلك من الأمور التي يتبادلها الناس في حياتهم اليومية لكن خارج قاعات الدرس.
نصوص الخربشة على المقاعد الدراسية أخف وطأة مما يشاهد في الشوارع من حيث خلوها من الألفاظ والعبارات الساقطة؛ لأنها تنفيس عن طاقات كامنة لم تجد من يحسن استثمارها وتوجيهها وجهة صحيحة
والثالث: نصٌّ انتهازي مخاتل يُكتب في غياب الرقيب، على المقاعد والجدران والزوايا الملاصقة للمقعد الذي يُجلس عليه ليستعان به في الاختبارات، ذلك أن النظام التعليمي القائم على التلقين والحفظ والاستظهار وتقديس الجاهز وقمع أي محاولة لتجاوز الراهن والمألوف، يطالب الطالب بإفراغ ما حفظه وما لُقن إياه دون نقص في ورقة الإجابة، وهو ما يجعل بعض الطلاب يحرصون على ردِّ البضاعة كما تلقوها، ولهذا يستعينون بذاكرة المقاعد والجدران المجاورة لكتابة نصوص يتوقعون أن تكون موضع سؤال في الاختبار.
وهكذا تصبح المقاعد والجدران مرآة عاكسة لكل ما يدور في نفوس من يجلس عليها، من أحلام وآمال وتطلعات وهموم ولا مبالاة، تتجسد في أشكال تعبيرية، رافضة وعابثة ومختلسة فرص النجاح، وذلك في النهاية نمط من أنماط محاولة إثبات الذات وإن بصورة سلبية وشكل تعبيري خارج على قوانين المجتمع، لذا فلا غرابة أن تكون تلك النصوص عرضة للمحو والإزالة لأنها انتهاك للقيم والسائد.