وصلت بغداد في الثالث من مايو/أيار 2023 تلبية لدعوة من مؤسسة "الشرق الأوسط للبحوث" (ميري)، ومركز "النهرين للدراسات الاستراتيجية"، وذلك للمشاركة في جلسات منتدى العراق. وكانت لنا جلسة خاصة وصريحة نحن ومجموعة من الخبراء الدوليين مع دولة رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني.
امتدت هذه الجلسة لوقت طويل، كان الحديث فيها شفافا وصريحا، تناول توجهات الحكومة العراقية ومساراتها في المرحلة المقبلة، كالإصلاح السياسي والاقتصادي والوضع الأمني، وقضايا محاربة الفساد، ومسألة التسييس في مؤسسات الدولة العراقية، وتنظيم العلاقة بين الحكومة المركزية وأربيل وفق الدستور، والاتفاق الأخير بين الطرفين، وتفعيل التعاون الاقتصادي مع دول المنطقة؛ ذلك أن تقاطع المصالح الاقتصادية وتشابكها بين دول المنطقة قد ينعكس إيجابا على الوضع الداخلي العراقي.
تحدثنا أيضا عن الاتفاق السعودي الإيراني والدور العراقي في الحوار بين البلدين وإنجاز هذا الاتفاق، وسعي العراق لإقامة مركز تنسيق ثلاثي بين الرياض وبغداد وطهران، وذلك من أجل ضمان استقرار العراق ومصلحة المنطقة.
بعد انتهاء فعاليات المنتدى والذي استمر أياما عدّة، وجدتها فرصة وأنا في "أرض السواد" لأتجول في بغداد وضواحيها لرؤية معالمها: بلاد الرافدين الباحثة عن العدل منذ ملحمة الملك السومري الأسطوري جلجامش حتى يومنا هذا؛ فقررت أن تكون أولى زياراتي لمنطقة الكاظمية في بغداد. كان الصبح مشمسا وصوت فؤاد سالم وهو يغني رائعة السياب (غريب على الخليج) يرنّ في أذني، خصوصا ذلك المقطع الذي يقول فيه:
الشمس أجمل في بلادي من سواها
والظلام... حتى الظلام هناك أجمل
فهو يحتضن العراق.
حين فرغت من زيارة منطقة الكاظمية بجانب حي الكرخ، الذي يقع على الجانب الغربي لنهر دجلة، قطعت جسر الأئمة مشيا صوب جامع الإمام الأعظم أو جامع أبو حنيفة النعمان (توفي 150ه)، القريب من حي الرصافة، الواقع في الجانب الشرقي لنهر دجلة، الذي كان له أثره الملحوظ في اختلاف ثقافة أهل هذين الحيين نتيجة وقوعه بينهما، إذ إن غالبية القاطنين من الرحل في الكرخ كانوا من شبه الجزيرة العربية، من وسطها تحديدا، في حين أن غالبية القاطنين في حي الرصافة من الرحل كانوا من أهل الشمال والشرق من العجم.
اكتفيت صباح يوم السبت بهاتين الزيارتين. في أثناء سيري هناك كان تأمل حال بغداد هو ما يسيطر علي، كانت الصور التي تتداعى من الذاكرة والصورة الشاخصة أمامي تذكرني بمصطفى جمال الدين (توفي 1996 م) وهو يقول:
بغداد ما اشتبكت عليك الأعصرُ
إلا ذوت ووريق عمركِ أخضرُ
مرّت بكِ الدنيا وصبحكِ مشمسٌ
ودجت عليك ووجه ليلكِ مقمرُ.
كانت هذه الأبيات تتردد في داخلي وأنا أنحدر مساء ذلك اليوم من فندق بابل صوب مطعم البغدادي في شارع أبو نواس، كانت المدينة شاخصة أمامي وأبيات جمال الدين تتردد سائرة معي في شوارعها وأزقتها. تأملت المكان ووجوه الناس التي تعطي للرائي انطباعا بوجود الأمل، على الرغم من مظاهر السلاح المنفلت، وأن هناك نورا مشعا ومستقبلا أفضل من ماضيهم ينتظرهم في نهاية النفق.