تتواتر الأخبار بين الحين والآخر، خصوصا خلال سنوات الحرب الأخيرة، عن إغلاق المكتبات التجارية في مختلف مدن سوريا. فالمكتبة بشكلها السوري المعتاد تعتمد بصورة كليّة على بيع الكتب، أي لا تختلط بمبيعات أُخرى كالقرطاسية ومستلزمات الطلاب وما شابه ذلك. أغلب المكتبات السورية اختصّت ببيع الكتب وصنعت أسماء وعلاقة ثقافية واجتماعية داخل البلاد. وألقى انتشار وسائل التواصل الاجتماعي ومواكبتها التفصيلي للأحداث، الانتباه على ظاهرة انهيار المكتبات وإغلاقها في عموم البلاد، خاصة أن تطور نشاط المطبوعات في سوريا قد أُجهض مرارا، وتعرضت المكتبات وحركة الطباعة لنكسات أُهمل الحديث عنها منذ خمسينات القرن الماضي.
بحسب المؤرخ هاشم عثمان الذي أرّخ لتاريخ الصحافة ودور النشر، أغلقت منذ الخمسينات والستينات عشرات المطابع والدور الناشئة في عموم سوريا، التي كانت تختص بطباعة الكتب التراثية والدينية والأدبية، تزامنا مع الناصرية والبعث على التوالي، وتحولت في أغلبها إلى طبع المنشورات الإعلانية، أو حتى أوراق النعي وبطاقات المعايدة.
هذا الانحسار في حركة المطبوعات هُمّش ثقافيا ولم يعد التراجع الأصيل في حركة الطباعة منذ نصف قرن، مدار نقاش حقيقي، بعدما كان الكتاب السحر الوحيد الذي يحاول الجميع التلهف نحوه سواء للمتعة أو لتشكيل الوعي والتفاعل الاجتماعي.
في سوريا تعرّضت الطباعة للتدهور المتواصل منذ منتصف القرن الماضي، إما بفعل السلطة أو الصراعات الايديولوجية السائدة وانعكاسها الاجتماعي. ففي ظل حراك سياسي وثقافي ظل نشطا حتى الثمانينات، شهدت المكتبات حروبا على محتوياتها بين القوميين والشيوعيين، وبين الإسلاميين والماركسيين، وبين سلطة تنقم على صاحب مكتبة لبيعه كتابا معينا، سواء أكان الكتاب دينيا أم سياسيا أم أدبيا. فقد خاضت السلطات السورية حروبها الخاصة مع المكتبات، وتجلّى ذلك في ملاحقة كُتب لشخصيّات سورية محدّدة، أو منع دار للنشر من إصدار الكتب جراء نشرها كتابا غير مصرّح به أو غير مقبول من وجهة نظر السلطة. مع ذلك استطاع العديد من دور النشر الصمود والبقاء في الداخل، والحفاظ على اتزان كبير في النشر لجذب الجمهور عبر الكتب التي تنتجها الثقافات العالمية أدبا وفكرا. مع الألفية الجديدة احتفظ الكثير من دور النشر في سوريا بعلو كعبه في ما يخص إنتاج الكُتب، كـ"دار الحوار"، و"دار التكوين"، و"دار الحصاد"، و"دار الفكر"، و"دار أطلس""، و"دار المدى" بفرعها في دمشق، إضافة إلى الكثير من الدور التي تختص بالجانب التراثي والديني. واستقرت عشرات المكتبات على العمل بنشاط مذهل. بعض المكتبات بدأت عملها ونشاطها منذ الخمسينات، وحافظت على علاقة معرفية وإنسانية مع سكان المدن ودور النشر السورية والعربية، إلا أن سنوات الحرب الأخيرة قضت على العديد من التجارب المهمة والفريدة، فأغلق في عموم سوريا أكثر من عشر مكتبات لبيع الكتب، كـ"نوبل" في دمشق التي يربو عمرها على الخمسين عاما، و"مكتبة كردية" في اللاذقية التي يتجاوز عمرها ستين عاما. شكل إغلاق المكتبات وانحسار وجودها ما يشبه الصدمات النفسية والاجتماعية لدى المثقفين والقراء عموما. حتى عند الذين لا يقرأون ولا يتابعون إصدارات الكتب، عشرات المقالات والكثير من تعبيرات الرأي على وسائل التواصل أظهرت بُعدا حميميا حيال المكتبات التي أُغلقت، وأظهر جزء كبير من التعليقات جانبا خفيا ومورابا في الساحة السورية من التعلق الشديد بالمكتبات والكتاب، والشعور بأن هوية المدينة تنتقص بإغلاق مكتبة. يمكن فهم الحالة السورية في التعبير العنيف والغاضب على إغلاق المكتبات، حيث تَصدَّر إغلاق مكتبتي "نوبل" و"كردية" واجهة المدونات المكتوبة وأخبار التواصل الاجتماعي.