انفجار مرفأ بيروت... كيف يحمي اللبنانيون أنفسهم من النسيان؟https://www.majalla.com/node/296836/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%A7%D9%86%D9%81%D8%AC%D8%A7%D8%B1-%D9%85%D8%B1%D9%81%D8%A3-%D8%A8%D9%8A%D8%B1%D9%88%D8%AA-%D9%83%D9%8A%D9%81-%D9%8A%D8%AD%D9%85%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%84%D8%A8%D9%86%D8%A7%D9%86%D9%8A%D9%88%D9%86-%D8%A3%D9%86%D9%81%D8%B3%D9%87%D9%85-%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D9%86%D8%9F
مضت اليوم سنوات ثلاث على انفجار مرفأ بيروت في السادسة من مساء 4 أغسطس/ آب 2020، حينما اهتزت المدينة اهتزازا شبه زلزالي أحدثه اشتعال 2750 طنا من نترات الأمنيوم المخزّنة في عنابر مرفئها منذ سنة 2013. قوة الانفجار المهول وصدمته أدتا إلى تسميته "بيروتشيما" في الإعلام العالمي، تشبيها له بالانفجار النووي في هيروشيما أواخر الحرب العالمية الثانية.
العصف الزلزالي الذي ضرب بيروت دمّر وصدّع الكثير من مباني أحيائها القريبة من المرفأ، وقتل 232 شخصا من سكانها، بينهم مفقودون لم يعثر لهم على أثر، وجرح أكثر من 7 آلاف شخص آخرين في المدينة، كانت مشاهدهم وصورهم مروعة في سيرهم نازفين وشبه مسرنمين وسط الحطام والدخان وحديد السيارات المنقورة والمدمرة، وعلى حقول الزجاج المتناثرة شظاياه في الشوارع، وفي الطرق إلى المستشفيات التي امتلأت بهم وتكدسوا في ردهاتها وعلى أبوابها في بيروت، وصولا إلى صيدا وجبيل على مسافة أكثر من 40 كلم من العاصمة.
تضرّر وتصدّع نتيجة الانفجار نحو 50 ألف وحدة سكنية، وصار 300 ألف شخص بلا مأوى. وقدرت الخسائر المادية بـ10 إلى 15 مليار دولار. ورمت الكارثة أطنانا من اليأس والقنوط والخوف على معظم بلاد اللبنانيين. وهي كانت مخيّمة أصلا على بلادهم منذ شهور، وربما بعض سنين.
وكان شطر كبير منهم يتجرعونها متذمرين من دخولهم المتدرج، اليومي والبطيء، في نفق مظلم. وهؤلاء هبوا فجأة ساخطين غاضبين فيما سمي "ثورة" 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019، فتبرّأوا من زعمائهم السياسيين وأسمعوهم أبشع الصفات والشتائم طوال شهور في الشوارع وعلى الملأ العام.
رمت الكارثة أطنانا من اليأس والقنوط والخوف على معظم بلاد اللبنانيين. وهي كانت مخيّمة أصلا على بلادهم منذ شهور، وربما بعض سنين. وكان شطر كبير منهم يتجرعونها متذمرين من دخولهم المتدرج، اليومي والبطيء، في نفق مظلم
لكن تلك "الصحوة" المفاجئة تبددت، وعمل على تبديدها بالعنف اليومي أمير الحرب ورهطه المسلح ("حزب الله" مع حركة "أمل"). لذا أخذ أولئك اللبنانيين الخوفُ مجددا ورماهم في اليأس والقنوط، حتى فاجأهم الانفجار المهول في مدينتهم. وربما كانوا يستبعدون أن يتركهم العالم ينحدرون في هاوية ذاك النفق المظلم. لكنه تركهم، فتكدس شطر كبير من أجيالهم الشابة على أبواب سفارات الدول الغربية، طلبا للهجرة إليها.
ومنذ انفجار مرفأ بيروت وحتى اليوم هاجر عشرات ألوف من تلك الأجيال. وانضم لبنان إلى قائمة بلدان الهجرة السرية أو غير الشرعية في "قوارب الموت" في البحر المتوسط.
انفجاران وهاوية
يؤرخ كثيرون لبداية انحدار لبنان إلى الهاوية بانفجار شبه زلزالي في عاصمته، سبق بـ15 سنة انفجار مرفئها: شاحنة محملة بأكثر من طن من مواد شديدة الانفجار، وكان يقودها فتى "انتحاري" مغرر به. وانفجرت تلك الشاحنة ظهيرة 14 فبراير/شباط 2005 في طرف وسط بيروت، غير بعيد من مرفئها. قتل التفجير رفيق الحريري وعشرات سواه تصادف وجودهم في المكان. وكانت غايته اغتيال الحريري الذي كان رائد خروج لبنان من حروبه الأهلية (1975- 1990).
ولما أخرجت عملية الاغتيال ملايين اللبنانيين إلى الشوارع احتجاجا، وأُنشئت محكمة دولية للكشف عن القتلة ودوافعهم، تواصلت عمليات الاغتيال السياسي، فحصدت أكثر من 15 شخصية سياسية وأمنية لبنانية من معارضي "حزب الله" والنظام السوري الذي أخرج اغتيال الحريري جيشَه وأجهزة استخباراته من الديار اللبنانية، فودّعها أمير الحرب بتظاهرة من محازبيه وجمهوره عنوانها "شكرا سوريا" الأسد.
وبعد أيام على انفجار مرفأ بيروت، أي في 18 أغسطس/آب 2020، كان لبنان يترقب صدور قرار المحكمة الدولية النهائي في اغتيال الحريري، فأقرَّ بأن قائدا عسكريا في "حزب الله" يدعى سليم عياش "تواطأ" وشارك في عملية الاغتيال. وأخرجت المحكمة عددا من قادة الحزب إياه من قائمة "المتواطئين" والمشاركين في العملية، بسبب عدم توافر الأدلة والقرائن على ضلوعهم فيها. وطلبت المحكمة من السلطات اللبنانية تسليم عياش إلى العدالة الدولية. وهذا ما رفضه "حزب الله" واعتبره من سابع المستحيلات، بعدما كان اتهم إسرائيل وأميركا بعملية الاغتيال.
يؤرخ كثيرون لبداية انحدار لبنان إلى الهاوية بانفجار شبه زلزالي في عاصمته، سبق بـ15 سنة انفجار مرفئها: شاحنة محملة بأكثر من طن من مواد شديدة الانفجار، وكان يقودها فتى "انتحاري" مغرر به. وانفجرت تلك الشاحنة ظهيرة 14 فبراير/شباط 2005 في طرف وسط بيروت، غير بعيد من مرفئها. قتل التفجير رفيق الحريري وعشرات سواه تصادف وجودهم في المكان
وقبل نحو شهر من الذكرى السنوية الثالثة لانفجار مرفأ بيروت، قال عضو القيادة السابق في "تيار المستقبل"، والنائب السابق في البرلمان اللبناني، الدكتور الطبيب مصطفى علوش في مقابلة تلفزيونية: الأزمة السياسية والاقتصادية التي عصفت بلبنان منذ "ثورة" 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019- أي إفلاس ماليته العامة وانهياره الاقتصادي، قبل انفجار المرفأ وشغور منصب رئاسة الجمهورية منذ 31 أكتوبر/تشرين الأول 2022، واعتبار الحكومة المستقيلة قانونيا ودستوريا حكومة تصريف أعمال- لا يمكن حلّها "إلا بتسوية مع حزب الله". قول علوش هذا مصدره عقلانية قانطة ويائسة. وعِماد هذه التسمية تنازل المطالبين اللبنانيين عن مطالبتهم بأي تحقيق محلي أو دولي في جريمة انفجار مرفأ بيروت، وتركها في ذمة التاريخ، شأن جريمة اغتيال الحريري التي كشفتها المحكمة الدولية.
والحق أن مصطفى علوش، بعقلانيته السياسية القانطة واليائسة، يحاول إيجاد سبيل مؤقت لانعتاق لبنان من أزمته الراهنة المستعصية، كي يلتقط أنفاسه ويخرج من أزمته الراهنة المستعصية واختناقه المدمر. وذلك بإضافة الكارثة الراهنة إلى سلسلة الكوارث والاغتيالات السابقة. وهي سلسلة لا أثر لها في صفحات تاريخ لبنان الخالية إلا من أمجاد "حزب الله" التي تعمُّ خيراتها بلاد اللبنانيين، منذ أذاع الحزب إياه بيانه التأسيسي "الخميني" سنة 1985، إلى "أمة المستضعفين في الأرض".
النسيان.. روح الجماعة وغيابها
قد يكون النسيان من طبيعة حياة البشر ومقدرتهم على استمرارهم العيش في نهر الزمن الذي لا يكف عن الجريان، حسب الروائي ميلان كونديرا الراحل قبل أقل من شهر. فمن دون النسيان تتحول الحياة جحيما أبديا خالدا، وفق الروائي نفسه.
اليوم، ومنذ الحملات الشبابية الكبرى لإزالة الردم والركام بعد يومين أو ثلاثة على انفجار مرفأ بيروت ذهب اللبنانيون إراديا ومرغمين بعيدا في النسيان.
وكانت مشاهد الشبان والفتيات، حاملي الجرافات والمكانس وتدفقهم على شارعي الجميزة ومار مخايل القريبين من المرفأ لإزالة الردم والركام بعد الانفجار، تشبه مشاهد نزهة في الخراب، وطالعة من مناخ أغنية لفيروز والأخوين رحباني، في فرحها المتفائل والبريء.
لكن شابة ناشطة في "ثورة" 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019، كان قد أذهلها مشهد أولئك المندفعين الفرِح في حملات إزالة الردم والركام في الأيام التي تلت الانفجار. وهي قالت إن تلك الحملات أرادت محو آثار الجريمة وطيها سريعا. واعتبرت ذلك جريمة أخرى: تبرئة المتسببين في الجريمة الأولى، أي مجرمي السياسة والحرب في لبنان، واقترحت إبقاء بيروت على حالها غارقة في الدم والجثث والردم والركام، حتى جلاء حقيقة الانفجار. ربما لم يكن كلامها سوى "هذيان" يريد توقيف الزمن وتأبيد الكارثة، وهذا يعاكس الطبيعة وطبائع البشر الذين لا علاج لكوارث حياتهم إلا بالنسيان.
وهذا ما كان اللبنانيون فعلوه حين طووا صفحات حروبهم الأهلية وخرجوا منها إلى زمن إعادة الإعمار والبناء في الحقبة الحريرية (1990-2005) منذ انطلقت الجرافات تعمل لإزالة الردم والركام في بيروت، كأنها تعلن: لا صوت يعلو فوق صوت الجرافات لطي صفحة الحروب.
وكانت روح الجماعة وروابطها التضامنية ومبادراتها في أحياء الجميزة ومار مخايل والأشرفية والكرنتينا (وهي أحياء بيروتية مسيحية قريبة من المرفأ) قد نشطت بقوة مع مبادرات دولية طوال السنوات الثلاث الماضية على الانفجار، فأعادت إعمار هذه الأحياء وجدّدتها ونشّطت الحياة فيها، رغم كثرة قتلى الانفجار فيها ونزيف الهجرات الواسعة منها إلى خارج لبنان. لكن من عايش حروب لبنان الأهلية، لا بد أن يستذكر روح الجماعة عينها، المنبعثة في تلك الأحياء وجيلها الشاب بين (1972-1975) واندفاعه إلى امتشاق السلاح بقيادة بشير الجميل، لخوض معارك الحرب والتدمير، دفاعا عن الجماعة وأحيائها السكنية.
كانت مشاهد الشبان والفتيات، حاملي الجرافات والمكانس وتدفقهم على شارعي الجميزة ومار مخايل القريبين من المرفأ لإزالة الردم والركام بعد الانفجار، تشبه مشاهد نزهةٍ في الخراب، وطالعة من مناخ أغنية لفيروز والأخوين رحباني، في فرحها المتفائل والبريء
وعلى الرغم من اختلاف نتائج انبعاث روح الجماعة في سني الحرب، عن نتائج انبعاثها بعد انفجار المرفأ، فإن الإرادة المنبعثة (حربيا في ذاك الجيل، وللإعمار وبعث الحياة من الركام في جيل أبناء المحاربين) هي نفسها: روح الجماعة وإرادتها، مرة للحرب وأخرى للإعمار.
أما وسط بيروت الذي أعيد إعماره بعد الحروب، وأصابه انفجار المرفأ بأضرار جسيمة- وهو مسكون بروح مشروع رفيق الحريري العمراني وطيفه وبروح جماعته السياسية منذ انتهاء الحرب- فلم يشهد لا حملات إزالة الردم والركام على مثال الأحياء المسيحية، ولا شهد نشاطا ومبادرات لإعادة إعماره وبعث الحياة فيه منذ انفجار المرفأ، بل منذ اغتيال رفيق الحريري، وتخييم "حزب الله" وجماعة ميشال عون ورهطه فيه، وإقفاله طوال نحو سنتين (2007-2008) احتجاجا على إنشاء محكمة دولية لكشف قتلة الحريري.
والأرجح أن وسط بيروت بقي على حاله منذ انفجار المرفأ، غارقا في الإهمال والعتمة، لأن شركة استثمارية (سوليدير) هي التي تولت إعادة إعماره وإدارته بعد الحرب. فمثل هذه الشركات للتطوير العقاري والإعمار والاستثمار، لا تحركها روح الجماعة وإرادتها وعصبيتها، بل تحركها الخطط الاستثمارية والتوقعات الاقتصادية.
نسي اللبنانيون اليوم، بعد 3 سنوات مريرة على الانفجار الكبير، أن تحقيقات قضائية في الجريمة حصلت أو قد تحصل. ولم يعد أحد يتذكر تلك التحقيقات إلا من باب التندّر والسخرية المرّة والعبث، في أثناء الكلام على الجهاز القضائي اللبناني الخاوي، والمقيد بولاءاته المزمنة، إما خوفا من أولياء الأمر والنهي في الدولة المنحلة والمتهاوية، وإما طاعة لأولياء نعمته من طغمة الزعماء السياسيين.
ورب من يتساءل: ماذا لو أصاب انفجار مرفأ بيروت مناطق وأحياء جماعة الولاء الحربي العصبي المرصوص في إمرة قائدها "المقدس"؟ هل كانت هذه الجماعة أقل من إنزال قصاص جماعي بالجماعات الأخرى؟
ماكرون والحريري وميقاتي
كانت مدوية أصداء انفجار بيروت عالميا وفي الإعلام الدولي، فيما كان ألمَّ باللبنانيين المنتفضين منذ 17 أكتوبر/تشرين الأول يأسٌ من احتمال أن تغير انتفاضتهم شيئا من سلوك سلطة الفساد والإفلاس المالي والسياسي في بلدهم.
وما أضافه الانفجار الكارثي من ذهول وغضب إلى يأسهم، حملهم على انتظار ما قد تأتي به المبادرات الخارجية، الإقليمية والدولية، من مساعدات واحتمالات علاج مصابهم الكبير. وبما أن حكومات الدول والمنظمات والهيئات الدولية غير الحكومية، كانت قد فقدت ثقتها بالحكومة والهيئات السياسية اللبنانية، اشترطت لتقديم مساعداتها أن تتلقاها وتشرف على إدارة توزيعها المنظمات الدولية وهيئات المجتمع المدني في لبنان.
وحين زار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بيروت بعد يومين من الانفجار، أي في 6 أغسطس/آب، استقبله في جولته التفقدية للمرفأ والأحياء الأشد تضررا في المدينة حشد من الأهالي، فاستجاروا به غاضبين من طبقة سياسية فاسدة ومدمرة في بلدهم. بل إن بعضهم راح يطلب منه، عن يأس وقنوط، عودة الانتداب الفرنسي على لبنان علّه ينقذ البلاد مما أنزله بها زعماؤها السياسيون. وفي ختام زيارته، دعا ماكرون إلى إحداث "تغيير" في النظام اللبناني. وفي مؤتمره الصحافي البيروتي قرّع الطبقة السياسية. وحين رعى مؤتمرا دوليا لمساعدة لبنان، تعهد المجتمع الدولي بتقديم مساعدة طارئة بقيمة 300 مليون دولار، على أن لا تمر عبر المؤسسات الحكومية.
وفي 8 أغسطس/آب تظاهر ألوف من اللبنانيين ضد "الطغمة" اللبنانية الحاكمة. وواجهت القوى الأمنية المتظاهرين الغاضبين، فاستخدمت العنف المفرط ضدهم. وأعلن بعض الوزراء استقالتهم من الحكومة، قبل إعلان رئيسها حسان دياب استقالتها في 10 أغسطس/آب.
وبعد تكليف سعد الحريري بتشكيل حكومة جديدة في 22 أكتوبر/تشرين الأول، أعلن بعد 9 أشهر، أي في 15 يوليو/تموز 2021، اعتذاره عن التشكيل والتكليف، بعدما حالت خلافاته مع رئيس الجمهورية ميشال عون دون تأليف الحكومة. وكان الحريري وعون أمضيا الأشهر الأخيرة في تبادلهما التهم بالتعطيل. وبعد تكليف نجيب ميقاتي بتشكيل حكومة في 26 يوليو/تموز، لم يتمكن من تشكيلها إلا بعد مضي 13 شهرا، أي في 10 سبتمبر/أيلول 2022.
كانت مدوية أصداء انفجار بيروت عالميا وفي الإعلام الدولي، فيما كان ألمَّ باللبنانيين المنتفضين منذ 17 أكتوبر/ تشرين الأول يأسٌ من احتمال أن تغير انتفاضتهم شيئا من سلوك سلطة الفساد والإفلاس المالي والسياسي في بلدهم
على صعيد التحقيقات القضائية في جريمة المرفأ، كان المحقق العدلي فادي صوان قد كلّف رسميا بالتحقيق. وفي 10 ديسمبر/كانون الأول 2020 ادعى صوان على رئيس الحكومة المستقيل حسان دياب وثلاثة من وزراء حكومته واتهمهم بـ"الإهمال والتقصير" في إجراءات إدارية تتعلق بتخزين نترات الأمنيوم في عنابر المرفأ. وفي 18 فبراير/شباط 2021 نُحي صوان عن التحقيق، وعُين القاضي طارق البيطار خلفا له، فأعلن في 2 يوليو/تموز عزمه على الادعاء على دياب ووزراء سابقين ومسؤولين أمنيين وعسكريين، ثم أصدر في 16 سبتمبر/أيلول مذكرة توقيف وزير الأشغال العامة والنقل السابق غازي زعيتر، وهو من حصة حركة "أمل" ورئيس مجلس النواب نبيه بري، في الحكومة.
في 11 أكتوبر/تشرين الأول، ندّد أمين عام "حزب الله" حسن نصر الله في إطلالته التلفزيونية بما وصفه بـ"استنسابية المحقق العدلي" طارق البيطار، واتهمه بـ"تسييس التحقيق". وهذا ما كان قد اتهم به المحكمة الدولية في اغتيال الحريري وعارض إنشاءها معارضة وجودية شرسة. هو استبق إصدار حكمه على البيطار في 12 أكتوبر/تشرين الأول، قبل إصدر البيطار مذكرة توقيف وزير المالية السابق علي حسن خليل المنتمي إلى حركة "أمل"، والمعاون الأول لنبيه بري.
وكان سبق صدور مذكرة توقيف علي حسن خليل وكلمة نصر الله، أن زار المسؤول الأمني في "حزب الله" وفيق صفا، قصر العدل في بيروت في 20 سبتمبر/أيلول، طالبا مقابلة رئيس مجلس القضاء الأعلى سهيل عبود. وبعد دخول صفا مع مرافقيه قصر العدل، رفض عبود اللقاء به. لذا خرج صفا من القصر غاضبا، وقال لإعلامية يعرفها والتقاها على مدخل القصر أن تبلغ القاضي طارق البيطار عزمه وعزم حزبه على "قبعة" (اقتلاعه) من منصبه وكف يده عن التحقيق، إذا لم يعمد القضاة إلى فعل ذلك.
وفي خضم هذه الأحداث انطلقت في أوساط جمهور "الثنائي الشيعي: أمل وحزب الله" شائعات غاضبة من القاضي البيطار، مفادها أنه "يحيك" مؤامرة لاتهام "حزب الله" بأنه بالتعاون مع النظام السوري، جلب الباخرة المحملة بأطنان نترات الأمنيوم إلى مرفأ بيروت وخزّنها في عنابره، كي يستخدمها نظام الأسد في تعبئة البراميل المتفجرة التي قصف بها الشعب السوري الثائر. والحق أن هذه الشائعات كانت قد أمست الرواية الأكثر تداولا لدى الرأي العام اللبناني، وفي كثرة من التقارير الإعلامية العربية والدولية قبل إعلان جمهور "الثنائي الشيعي" غضبه من البيطار، وحتى قبل تعيينه للتحقيق في الجريمة.
وهكذا أعلن "الثنائي" عن حشد أنصاره للقيام بمظاهرة تطالب بـ"قبع" البيطار وتنحيته عن التحقيق، على أن تنطلق في 14 أكتوبر/تشرين الأول 2021 من أحياء ضاحية بيروت الجنوبية، إلى طريق صيدا القديمة ومستديرة الطيونة- وهما الخط الفاصل بين الشياح (الشيعية) وعين الرمانة (المسيحية) في زمن الحروب الأهلية- لتسير إلى قصر العدل والمتحف الوطني. وفي الأيام القليلة التي سبقت المظاهرة، خيّم على بيروت جو من الترقّب والحذر والخوف.
وفي ظهيرة 14 أكتوبر/تشرين الأول احتشد ألوف المتظاهرين من "الثنائي الشيعي" في مستديرة الطيونة. وسرعان ما توغل متظاهرون غاضبون وفي حال من التوتر في شوارع منطقة عين الرمانة المسيحية، وشرعوا في استفزاز أهلها الخائفين وشتمهم وتحطيم مداخل بناياتهم السكنية، فأصيب الأهالي بالذعر، ولعلع الرصاص، فسقط عدد من الجرحى. وبعدما تراجع المتظاهرون إلى مستديرة الطيونة، واستقدموا مسلحين من أحيائهم الشيعية القريبة. وأظهرت الصور ومقاطع الفيديو عددا كبيرا من المسلحين الذين راحوا يطلقون رشقات الرصاص من المستديرة في اتجاه عين الرمانة وفرن الشباك. وذكّرت تلك المشاهد على خط التماس بأولى جولات الحرب الأهلية سنة 1975. وكان القتلى الستة الذين سقطوا في تلك المعمعة من المتظاهرين والمسلحين الشيعة، إضافة إلى جرح عشرات.
أشاعت الحادثة الخوف في لبنان كله من ذكريات ومشاهد الحرب الأهلية. وجرى بين "حزب الله" وحركة "أمل" من جهة و"حزب القوات اللبنانية" من جهة أخرى، تبادل التهم بالإعداد للمقتلة. واعتقلت الأجهزة الأمنية الرسمية عددا من أنصار "القوات اللبنانية" من دون أن تعتقل أحدا من أنصار "الثنائي الشيعي" المسلحين والمتظاهرين.
وبعد مدة جرت "لفلفة" الحادثة وذيولها، كأن شيئا لم يكن. لكن إرادة "قبع" (اقتلاع) القاضي طارق البيطار، تحققت مواربة على الطريقة اللبنانية. فمدعي عام التمييز غسان عويدات الذي كان البيطار أورد اسمه في قائمة المدعى عليهم، اقتصَّ من البيطار بأن أعلن إحالته إلى هيئة التفتيش القضائي بتهمة "التمرد على القضاء" واغتصاب السلطة، فيما أكد الادعاء العام اللبناني أن التحقيق في جريمة المرفأ أصبح معلقا.
بيروت الأمنيوم والاغتيالات
في الأحياء الداخلية التي تضررت بالانفجار- وقد أعيد ترميم واجهاتها وتأهيلها مجددا في الأشرفية ومار مخايل والتباريس والجميزة- لا تزال اليوم، في الذكرى السنوية الثالثة للانفجار الكارثي، ماثلة على جدران عتيقة متهرئة عباراتٌ دوّنها بأيدٍ مرتجفة عابرون وعابرات، مجهولون ومجهولات. وهم على الأرجح من الشبان والشابات الذين واللواتي هاجروا وهاجرن، ولم يبق منهم ومنهن أحد في لبنان.
ننقل هنا بعضا من تلك العبارات:
"ما ضروري هيك تكون آخرتنا": ليس من الضروري أن تكون آخرتنا على هذه الصورة البائسة والمأساوية.
"صرنا ننتمي إلى الفقدان"، "كيف نلتئم" بعد الذي جرى؟
"أمنيوم"، "منكن لحالكن" (لستم وحدكم)، "لإيمتى رح نضل ناجين؟": إلى متى سوف نبقى من الناجين من المقتلة؟
"وتعطلت لغة الكلام"، "دخلنا في زمن الواقع/ة"، "مش فالة": لن أرحل أو أهاجر.
وعلى باب سيارة مهملة ومحطمة: "أنا هيك كمان": أنا مثل هذه السيارة.
إنها كلمات مختنقة، دوّنها عابرون وعابرات على جدران مهملة مهجورة. وهي مثلهم عابرة في يوميات بيروت والبلاد. وكأن هذه الكلمات دُوّنت وتُدون في لحظات صحوة مفاجئة تركت علاماتها على الجدران، لتشير إلى الغموض والقطيعة
إنها كلمات مختنقة، دوّنها عابرون وعابرات على جدران مهملة مهجورة. وهي مثلهم عابرة في يوميات بيروت والبلاد. وكأن هذه الكلمات دُوّنت وتُدون في لحظات صحوة مفاجئة تركت علاماتها على الجدران، لتشير إلى الغموض والقطيعة.
كلمات قدرية، لا تخاطب أحدا ولا تطلب شيئا. بل تعترف وتشهد وتسأل وتتذمر أو تستغيث بخفوت من حال اليأس والقنوط.
أما تلك الكلمة المنفردة "أمنيوم" فتبدو كأنها شاهدة على مقبرة جماعية لبشر مجهولين. كالانتماء إلى الفقدان، إلى حاملي نجاتهم من زلزال بيروت كوصمة دائمة في قلوبهم وعلى صدورهم. كالسائرين في ليل موحش يقولون للموتى والراحلين: لستم وحدكم. ونحن هنا باقون في الأرض الخراب، حيث تعطلت لغة الكلام.
كلمات قليلة عابرة من بيروت الأمنيوم والقتل والاغتيالات والردم والركام في مسيرة لبنان الكبرى للقتل والاغتيالات.