يدين نتاج الشاعر والباحث الفلسطيني زكريا محمد الذي رحل عن عالمنا يوم الأربعاء 2 أغسطس/ آب 2023 عن 73 عاما، كما هو حال جلّ النتاج الأدبي الفلسطيني، إلى معايشة الألم.
انتشر هذا الألم وعُمّم وفرض نفسه على المشهد الأدبي الفلسطيني، لكن المعضلة الكبرى في هذا المقام تكمن في طبيعة الألم نفسه فهو حين يشتعل لا يعود من يعاني منه يريد شيئا سوى أن ينتهي فحسب، بيد أنّ تلك اللحظة نفسها هي ما يخلق الإحساس بالجسد والعالم والوجود ويمنح الكتابة مادتها. كتابات زكريا محمد تروي سيرة ذلك التمزّق الحاد بين الرغبة في نفي الألم وبين اعتناقه شرطا للكتابة.
في البعد البحثي والبرهاني كان زكريا محمد يتقصّى أصل الوجود الفلسطيني. في كتاب "نخلة طيء؛ كشف لغز الفلسطينيين القدماء" الصادر عام 2005 عن "دار الشروق" يعمد إلى نفي الرواية الإسرائيلية حول الأصل اليوناني للفلسطينيين، مفنّدا بشراسة بحثية دقيقة ومتأنية كلّ المزاعم في هذا الصدد، ومؤكدا أنها لا تنتسب إلى عالم البحث التاريخي بل إلى عالم الأكاذيب والأيديولوجيا.
لم تخرج الصيغة الأكاديمية ومنهجية التنقيب التاريخي الصارمة، الجهد الكتابي والمعرفي من انتسابه المرجعي إلى الألم. كشف الحقائق من دون إمكانية توظيفها في تغيير الوقائع يجعلها نكأ في الجرح وإبحارا فيه مع وجود بوصلة ما، ولكن الشعر الذي وسم معالم تجربة زكريا محمد وميزها كان إبحارا في متاهات الألم من دون أي وسيلة اهتداء.
منذ عمله في الصحافة الأدبية في بيروت حتى عودته إلى رام الله عام 1994 وعمله مع الشاعر محمود درويش في مجلة "الكرمل"، كان مسكونا بهاجس النهايات إذ ليس من قبيل الصدفة ولا الرغبة في إحداث الصدمة عند القارئ أن يسمي ديوانه الصادر عام 1982 "قصائد أخيرة". هذا النزوع كان فاتحة المسار الذي حكم تجربته وأطّرها وتمهيدا للمسار المعاكس لتجربة درويش الذي بدا محتلا لكامل المشهد الأدبي الفلسطيني ومسيطرا عليه لدرجة أنه لم يعد يتسع لسواه. اختار زكريا محمد مبكرا التضاد مع درويش معترفا بفضله ومرجعيته التي فرضت عليه التناقض معه وتأسيس منهج شعري مغاير وسّع خريطة المشهد الشعري الفلسطيني ومنحها تنويعا أسلوبيا ومنهجيا.