في قصيدة مكتوبة في العام 1979 يلجأ زكريا محمد خلافا لدرويش وجلّ ما كان يكتبه الشعراء الفلسطينيون في تلك المرحلة، إلى اعتماد استراتيجية بقي وفيا لها طوال حياته وهي النص المحروم من العنوان، وكأنه كان يسعى إلى مواجهة مفهوم الموضوع المحدد بالإيحاء بانتفاء الموضوع.. كان يريد أن يبث الرخاوة وانعدام التحديد في نصه وأن يقيم تقابلا بين الخطابية الملحمية والرومانسية التي وسمت شعر درويش في تلك المرحلة واللغة الصاخبة التي طبعت كتابة مجايليه من الشعراء وبين لغة خافتة متسائلة ذات طابع مشهدي سينمائي فانتازي.
تقول هذه القصيدة:
ألقي على بحر صيدا يديّ
فيأتي إلي
ويمسح في قدمي خطمه
فأبتل من فروه
ومن زبد حول فكيه
أيها البحر
أيها الكلب
هل كنت تجري وراء السفائن تعوي عليها؟
روح التحوّلات
تحكم هذه القصيدة روح التحوّلات الأقرب إلى السحر، وتظهر العاطفة فيها مختزنة في صيغة سؤال متحرّك ينتمي إلى عالم من الفعل المستمر، صانعا حالة انتقال المفاجئ من الألفة إلى الغرابة والغربة. البحر كان يولد من اليدين قبل أن يغادر، فلا يبقى ولا تبقى اليدان كذلك ولا كل علاقات السحر الذي تولد منهما في مدينة لطالما كانت ولا تزال من أكبر حواضن مشهد الألم الفلسطيني في سيرته اللبنانية.
الكلام الذي كتبه الشاعر الذي كان آنذاك شابا يكشف عن شعرية خاصة تعنى بالبناء على الطفولي والسحري والساذج والبريء بحثا عن صوت مغاير ومختلف، وقد يكون هذا البعد منسجما مع النشاط الكتابي العام لزكريا محمد الذي يجمع بين البحث الأنثروبولوجي والتاريخي والشعر وكتابة قصص الأطفال في توليفة خاصة ونادرة كان يسعى من خلالها إلى اللعب مع استحالة أن يكون الفلسطيني طفلا، لذا فقد اجتهد في أن لا يكون سوى طفل.
حافظ على المزاج الطفولي حتى من داخل الصرامة البحثية حيث يمكن التأكيد، من خلال متابعة المسارات العامة لشغله، أنه كان يرى أن تشكّل منطق الباحث لديه وانطلاقا من خصوصيته وفلسطينيته، إنما كان يلاحق منطق الانضباط الصارم في اللعب الطفولي. خطاب التحليل النفسي ينسجم مع هذا المنطق في تأكيده أن لا شيء جديا أكثر من أطفال يلعبون.
تلك الاستحالة التي منعت الفلسطيني من أن يكون طفلا تجد تحدّيها في كتلة اللعب الجدية الصارمة والمفتوحة التي طبعت ممارسته الكتابية شعرا وقصة وبحثا والتي وجدت تمركزها الأكثر كثافة في دواوينه الأخيرة.
نقع في الدواوين الثلاثة الأخيرة "تمرة الغراب" و"زراوند" و"علندى" على اكتشافات شعرية مكتوبة بتجريب لا يخشى الطيران نحو الحدود القصوى تتولّد فيه اللغة والمعاني والأساليب من مادة هشّة وعابرة وآيلة للانكسار. في كلّ النصوص التي تتشكّل منها هذه المجموعات يظهر زكريا ساخرا من الشعر ومن موضوعاته ومن نفسه ومن كل شيء ومدافعا عن كتابة لا تهدف إلى شيء خارج ما تحاول أن تقوله، وهو لا يعدو أن يكون محاولة لتفتيت أصول الكتابة من دون رغبة في تركيبها من جديد أو خلق عمارة متماسكة من حطام هذا التفتيت والتفكيك، بل البناء من داخله.
شعر ضدّ الشعر
تتولّد الشعرية في هذا المقام من اللعب بأدوات الشعر وتقنياته وحدوده فنعثر على شعر يعادي الشعر ومنطقه. يكتب على صفحته في موقع "فيسبوك" في 20 مايو/ أيار: "الشعر طريقة موفقة لعدم قول أي شيء"، ولكنه يكتب شعرا يريد أن يقول كل شيء دفعة واحدة، وكأنّ مشروعية الكتابة عنده تتأتّى من أنها دفع للكلام نحو نهايته بعد تحميله ما لا يطيق بشكل أشبه بالتعذيب. ولعلّ المجال الذي ينفتح أمامنا إزاء ما أرساه من تعامل مع اللغة والأساليب يتضح إذا أحلناه إلى جدلية العلاقة بالسلطة.
فزكريا محمد يرفض كل السلطات ومن ضمنها سلطة الشعر وسلطة اللغة. يحاول أن يكتب نصا ناجيا من آثار كل الاستعمالات السابقة فلا يلجأ إلى استئناف أو تطوير ما قام به بنفسه أو ما اشتغل عليه سواه، بل يذهب مباشرة إلى ما يعدّه محاولة في كتابة الأثر الصافي للأحداث والأشياء. يبحث عن الأكثر يومية في اليومي والأكثر عادية في العادي والأكثر خفة في الخفيف، ويكتب كل ذلك مباشرة بلغة تسخر من أدواتها ومن سلطاتها وتوظف القاموسي والوعر إلى جانب المستحدث والجديد من دون تمييز، وكأنّ العملية الشعرية بالمفرمة العملاقة، وفق تعبير أثير لديه: "لدي تسع مجموعات شعرية وأريد الوصول إلى الرقم عشرة. أريد أن أحصل على الرقمين صفر وواحد معا. كي أضعهما أمامي مثل ماكينة خياطة أرفو بها الكون جاعلا منه قطعة واحدة".