أكره الإثقال على القارئ بمثل هذه المواضيع المرهقة، لكن حدث أن ثار جدل أخيرا حول ما ذكرته في السابق من أن ابن تيمية يؤمن حقا بفناء النار، وهذا كما هو ظاهر رأي جريء للغاية يتعلق بمصير الإنسانية. واعترض عليّ عدد من الإخوة اعتراضات غير منتظمة، بعضها ينفي أن يكون هذا هو رأي ابن تيمية، وبعضها مستاء من مجرد إثارة الموضوع، وبعضها يرد عليّ وكأنني صاحب المقولة. لكل ذلك قررت كتابة هذا المقال، لأني أرى أن من حق المعترضين أن أردّهم إلى مصادر ما قلت.
في بدايات الإسلام، لم يجرؤ أحد من المفكّرين المسلمين على القول بأن نار جهنم ستفنى يوما ما، إلا جهم بن صفوان الذي تميل الدراسات الفلسفية اليوم إلى جعله من أوائل المسلمين الذين تأثروا بالأفلاطونية المحدثة، وأبا الهذيل العلاّف المعتزلي. ثم زاد العدد فصاروا ثلاثة بابن عربي الطائي، رغم أن أسبابه تختلف، فهما يرجعان إلى سبب عقلاني، هو امتناع وجود ما لا يتناهى من الحوادث فقالا بفناء الجنة والنار معا، لأنه لا يوجد شيء لا يتناهى، سوى الله. أما ابن عربي فالقضية محسومة عنده، لأنه يؤمن بالرحمة، وهي ليست رحمة واحدة بل رحمات كثيرة متعددة، يفرق بينها بتفاصيل لسنا بصددها الآن. وخلاصتها أنه لا يوجد إنسان يستحق أن يعذّب عذابا أبديا، وإن كان يستحق عذابا يناسب ما اقترفه، ثم يتحول العذاب إلى عذوبة. بلغة عصرية، هو لم يقل بفناء النار، وإنما قال بفناء العذاب وتحوله إلى نوع من اللذة.
ثم زادوا فصاروا خمسة بابن تيمية وابن القيم. هناك من يجادل بأن الذي قال بفناء النار بصورة واضحة هو ابن القيم في كتابيه "حادي الأرواح" و"شفاء العليل"، وليس ابن تيمية. وهناك من يجادل في أن يكون ابن القيم أيضا، مع أن كلامه واضح وصريح في هذين الكتابين، ولا أحد من المتخصّصين ينكر نسبة هذا القول إليه، وأنا أجزم أن ابن القيم قد خالف شيخه ابن تيمية في قضايا فقهية قليلة، لكن لا يمكن أن يخالفه في مثل هذه القضية العقدية الكبرى، ولا يمكن أن يأتي بها من عندياته. قد أقبل بأن ابن تيمية، فيه منازعة، لكن لدي عدد من الحجج التي تثبت أنه خامسهم.
أجزم أن ابن القيم قد خالف شيخه ابن تيمية في قضايا فقهية قليلة، لكن لا يمكن أن يخالفه في مثل هذه القضية العقدية الكبرى، ولا يمكن أن يأتي بها من عندياته
الحجة الأولى: هي الرسالة التي حققها الباحث السعودي د. محمد السمهري عن مخطوطة وجدها في دار الكتب المصرية، تحمل عنوان "الرد على من قال بفناء الجنة والنار". هذه الرسالة لها عدة عناوين وسمّيت بأسماء ليست من اختيار المؤلف، بل ربما أن المحقق هو من سمّاها بهذا الاسم. في هذه الرسالة، على نقيض العنوان، ينافح ابن تيمية منافحة شديدة تؤيد القول بفناء النار وضد من يقولون ببقائها. على سبيل المثال لا الحصر، نقل ابن تيمية أثرا رواه الحسن البصري عن عمر بن الخطاب أنه قال: "لو لبث أهل النار كقدر رمل عالج، لكان لهم يوم يخرجون فيه". يقول بعضهم إن هذا لم يثبت عن عمر، وعلى هؤلاء يرد ابن تيمية قائلا: "ولو كان كلام عمر هذا غير صحيح لما تداولته الأئمة، ولوجب إنكارهم له لمخالفته الإجماع، والكتاب والسنة". تصحيحه لأثر عمر يدلّ على إيمانه بفناء النار، بل وبالخروج منها. هذه من نقاط الخلاف: هل تعذيب الكافر بالنار يطهره أم لا؟ جواب ابن تيمية هو نعم يطهره، بل ويخوله دخول الجنة. وهنا نلاحظ أن ابن تيمية قد اقترب كثيرا من ابن عربي.
ولمزيد من الإثبات، رجعت إلى مصنّف ابن القيم "حادي الأرواح" فوجدته يتكئ على ما جاء في رسالة ابن تيمية ويصرّح بالنقل عنها، وأحيانا ينقل الأفكار نفسها بلا تصريح. وفيها كتب ابن تيمية يقول عن الإجماع على عدم الفناء: "وأما الإجماع فهو أولا غير معلوم، فإن هذه المسائل لا يُقطع فيها بإجماع، نعم قد يُظن فيها الإجماع وذلك قبل أن يُعرف النزاع، وقد عُرف النزاع قديما وحديثا، بل إلى الساعة لم أعلم أحدا من الصحابة قال إنها لا تفنى، وإنما المنقول عنهم ضدّ ذلك، ولكن التابعين نُقل عنهم هذا وهذا. وأما القرآن، فالذي دلّ عليه حق، وليس في القرآن ما يدل على أنها لا تفنى".
وأيّد ابن القيم ابن تيمية بأنه لا يوجد في القرآن دليل واحد ينفي فناء النار ويدعم خلودها، أما الآية (خالدين فيها أبدا) فلا تعني عندهما إلا المكوث الطويل، أو أحقابا معدودة. وقد مدّ يد المساعدة لابن تيمية هنا، وأقول إن نصوص الوعيد هنا تشبه وعيد المنتحر بالخلود في النار مع أن المُوحّد بإجماع المسلمين لا يخلد في النار، فالانتحار كبيرة من كبائر الذنوب وليس كفرا.
وذكر ابن تيمية حديث "غلبت رحمتي غضبي" ثم قال معلقا عليه: "وهذا عموم وإطلاق، فإذا قدّر عذاب لا آخر له، لم يكن هناك رحمة البتة". وأضاف: "أنه قد ثبت مع رحمته الواسعة أنه حكيم، والحكيم إنما يخلق لحكمته العامة، كما ذكر حكمته في غير موضع، فإذا قدّر أنه يعذب من يعذب لحكمة، كان هذا ممكنا". وزاد "أما خلق نفوس تعمل الشر في الدنيا، وفي الآخرة لا تكون إلا في العذاب، فهذا تناقض يظهر فيه مناقضة الحكمة والرحمة، ما لا يظهر في غيره". ويلوم ابن تيمية خصومه الأشاعرة لأنهم يقولون يفعل ما يشاء، ولا يشترطون أن يفعل لحكمة، ويقول: "ليس عندهم على الحقيقة حكمة ورحمة".
ومن النصوص التي يحتج بها ابن تيمية: "ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه" فيقول: "ثبت أن الجنة يدخلها من لم يعمل خيرا" أي أنه لن يستشكل دخول أهل النار إلى الجنة بعد التطهر من باب أولى، لأنهم قد فعلوا في حياتهم بعض الخير.
ويفرّق بين الجنة والنار فيقول: "إن النار لم يذكر فيها شيء يدلّ على الدوام". وفي ختام الكتاب يقول: "فالنعيم من موجب أسمائه التي هي من لوازم ذاته فيجب دوامه بدوام معاني أسمائه وصفاته. وأما العذاب فإنما هو من مخلوقاته، والمخلوق قد يكون له انتهاء مثل الدنيا وغيرها، ولا سيما مخلوق خلق لحكمة تتعلق بغيره". يقصد أن النار قد خُلقت لتطهير البشر، فإذا تم التطهير فنت.
الحجة الثانية: أن تقي الدين السبكي خصم ابن تيمية المعاصر، له رسالة اسمها"الاعتبار ببقاء الجنة والنار"، وهي موجودة مطبوعة، يصرّح فيها أنه كتبها للردّ على ابن تيمية القائل بفناء النار، ويهاجم السبكي ابن تيمية قائلا: "قد صرّح بما صرّح به في آخر كلامه، فيقتضي أن إبليس وفرعون وهامان وسائر الكفار يصيرون إلى النعيم المقيم واللذة الدائمة، وهذا ما قال به مسلم ولا نصراني ولا يهودي ولا مشرك ولا فيلسوف". لاحظ هنا أن السبكي لم يفهم من كلام ابن تيمية أن أهل النار يفنون معها، بل فهم منه أنهم ينتقلون إلى الجنة. وشهادته كمعاصر في غاية الأهمية، خصوصا أن بعض كتب ابن تيمية قد فُقد.
موقف ابن تيمية واضح تماما ولا مساحة فيه لدعاوى المتشكّكين، لكن ما الذي جعله يميل إلى تأويل آيات الخلود في العذاب تأويلا مجازيا، وهو عدوّ المجاز؟ ما الذي جعله ينحاز لآثار تبدو ضعيفة الأسانيد عند أهل الصنعة؟
الحجة الثالثة: أننا وجدنا عددا من السلفيين من أتباع مدرسته ومن الفقهاء من يعترفون بأنه قد قال بهذا القول وأنهم لا يوافقون عليه، كمحمد بن إسماعيل الصنعاني، فقد كتب هذا الأخير كتابا سمّاه "رفع الأستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار"، يصرّح فيه أنه كتبه للردّ على ابن تيمية وابن القيم معا.
الحجة الرابعة: شيخ السلفيين قاطبة في القرن العشرين محمد ناصر الدين الألباني له ردود على ابن تيمية وابن القيم في هذه المسألة، ولم ينف عنهما هذا القول ولم يراوغ كما يفعل المعاصرون اليوم، وهذه تُحمد له وللصنعاني، فقد خطآهما بكل صراحة ونزاهة. وقرّر الألباني أنهما حكما العقل وزعما أن العذاب يطهر الكافر فيعود إلى الفطرة، وضعّف الأحاديث والآثار التي يعتمدون عليها، ثم اعتذر لهما بالقول: "بعد هذا أعود فأقول، إن ما تقدّم به من الآيات والأحاديث صريحة في الدلالة على بطلان القول بفناء النار، فكيف ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية وانتصر له تلميذه ابن القيم؟". ثم ذهب الألباني يعتذر لابن تيمية بأن ثقته البالغة في رحمة ربه، هي ما دفعه لهذا القول الغريب. (مقدمة رفع الأستار) ص 21.
الحجة الخامسة: لا بد أن يعترف الباحث المتجرد بأنّ ابن تيمية نصوص قديمة تقول بأن النار لا تفنى، لكن هذه النصوص لا تنفي وجود نصوصه القائلة بالفناء. بين أيدينا تعارض واضح يمكن حلّه بنظرية المراحل، ولا حاجة هنا إلى نظرية العوالم، فأحد القولين متقدّم والآخر متأخّر، وقد أثبت الباحثون الذي انشغلوا بالترتيب الزمني لكتب ابن تيمية أن الكتاب الذي حققه الباحث السعودي د. محمد السمهري من آخر كتبه.
موقف ابن تيمية واضح تماما ولا مساحة فيه، ولو ضئيلة، لدعاوى المتشكّكين، لكن ما الذي جعله يميل إلى تأويل آيات الخلود في العذاب تأويلا مجازيا، وهو عدوّ المجاز؟ ما الذي جعله ينحاز لآثار تبدو ضعيفة الأسانيد عند أهل الصنعة؟ إنه عالمه الصوفي الذي كان يتصارع في داخله دوما مع عالمه الفقهي، وقد كان يدرك وجود هذا الصراع ويتحدث عنه أحيانا، كما كتب في "الاستقامة": "ولهذا تجد تنافرا بين الفقهاء والصوفية". هذا النص وغيره يدل على أنه يُدرك النزعات المتلاطمة في داخله، مثلما ندرك أنه قد انحاز في هذه القضية إلى التصوف، فالتصوف ميّال للرحمة. وهو ما قاده إلى هذا التصور الثوري الجديد لمصير البشرية في الدار الآخرة: الله لا يفعل شيئا إلا لحكمة، ولا حكمة في استمرار العذاب، بل الحكمة في انتهائه بعد التطهر.