يخصّص عبد الأمير بعد ذلك فصلا مهما من الكتاب ليتناول أثر الحروب المتتالية على الأغنية العراقية، وكيف انتقلت على حدّ تعبيره إلى الخنادق، متوقفا عند تجربة كل من فاروق هلال وجعفر الخفاف ومحمود أنور، وكيف توزّعت الأغنية العراقية بعد ذلك ما بين الأغنية الوطنية التي تسعى إلى الدفاع عن الموروث الغنائي العراقي، وبين عدد من التجارب المبتذلة نتيجة هجرة أصحاب المواهب الراقية والمعتبرة، فيتناول في الفصول الأخيرة من الكتاب عددا من الفرق العراقية المؤثرة في المشهد مثل "فرقة العود العراقية" التي يرى أنها كانت حلما بعيد المنال في أوقات عصيبة تمر بها البلاد، ثم ينهي بعدد من الحوارات مع عدد من الموسيقيين العراقيين المعاصرين مثل نصير شمة وكوكب حمزة ورائد جورج الذين عبروا عن منهجهم الموسيقي ومحاولاتهم الدؤوبة في تقديم فن معبر عن العراق بأصالته وتاريخه.
2- فيروز كراوية: كل ده كان ليه
في كتابها الصادر حديثا عن دار "ديوان" (يناير/كانون الأول 2023) ترصد الباحثة والمغنية فيروز كراوية حال الأغنية العربية وتركّز بشكل أساسي على الحديث عن "الصدارة"، أي الأغاني والأصوات التي تصدّرت المشهد الغنائي بدءا بأم كلثوم وعبد الوهاب وصولا إلى أغاني الراب و"المهرجانات" في العصر الحديث.
يبدو مشروع فيروز كراوية طموحا فهو يغطي الكثير من التحوّلات الغنائية في مصر وأثرها على العالم العربي، ليس فقط من خلال رصد المغنين والمغنيات، بل أيضا من خلال رصد موقف السلطة ودورها في تغير التعامل مع الغناء والموسيقى من جهة ومحاولات توجيهه من جهة أخرى، كما تشير إلى موقف الشارع والمجتمع والأسرة من المغنين والمطربين، والتحول الذي حصل من دنيا العوالم إلى المطربات، تقول:
"إن مناخ النصف الثاني من القرن التاسع عشر قد مهَّد للمشهد الفني الأكثر ثراء في بدايات القرن العشرين فبدأت فنون الأداء تعرف شكلا أكثر احترافية وتنظيما اقتصاديا مع نشأة الفرق المسرحية والغنائية، وتأسيس الصالات المتخصصة والمتنوعة في ما تقدم من عروض، وترافق ذلك مع سعي الانكليز بعد فرض الحماية على مصر لفصل المجال الفني عن الديني".
ظهرت نتيجة تلك التحولات من خلال عدد من المطربات البارزات مثل ساكنة وألمظ التي اشتهرت برفقة عبده الحامولي في إطار "الحرملك"، لكن ذلك لم يدم طويلا، إذ سرعان ما اقتحمت منيرة المهدية مجال التمثيل والمسرح الغنائي، مما فتح الباب لظهور عدد من المطربات اللواتي حصلن على مستويات مختلفة من التدريب عبر التعليم الذاتي على يد ملحنين معروفين أو من خلال مشايخ الإنشاد الديني.
وتشير كراوية إلى بدايات صعود نجم "سلطانة الطرب" منيرة المهدية وكيف ساهم ذلك في تكون صورة جديدة للمطربات وهن يشاركن بفعالية في الأعمال المسرحية، ويحظى أداؤهن بقبول عند فئات صاعدة تملأ صالات عماد الدين من الأفندية والمتعلمين، كما تتناول أنواع الغناء التي انتشرت في ذلك الوقت مثل الطقطوقة التي تعتبرها معبرّة عن لغة المجتمع باعتماد مضمونها على الغناء الساخر الاجتماعي المجوني/الإباحي والمسرحي في الوقت نفسه، كما عكست الطقطوقة في ذلك الوقت توترات الانتقال الى مجال اجتماعي يمنح خيارات بين التقليد والتحديث.
ترصد كراوية بدايات ظهور أم كلثوم في نهاية ثلاثينات القرن الماضي وبداية غنائها بين الطقاطيق الخفيفة حتى الانتقال الذي أحدثته علاقتها بالشاعر أحمد رامي الذي ساهم في تدشين مسيرتها الفنية التي تعلي من قيمة الفن الغنائي وتنقيه من صوره المتردّية الشائعة في ذلك الوقت. قرنت مسيرة أم كلثوم إلى حد كبير بين القيمة الأخلاقية والقيمة الفنية وصورة المؤدّية، وكيف كان لنشأتها في مناخ ريفي محافظ أثر كبير في شخصيتها وطريقة تعاملها مع الغناء في ما بعد، بحيث أصبح لها خلال أعوام قليلة فرقة تضم أهم العازفين المحترفين (القصبجي وسامي الشوا ومحمد العقاد) وتميزت في أدائها لا سيما في التواشيح الدينية والقصائد.
تتناول المؤلفة كذلك النهج الذي اعتمده أحمد رامي في كتابته أغاني أم كلثوم، إذ حرص على أن يكتب لها "بلغة جديدة عن الحب والعواطف تبذل نفسها من أجل المحبوب وتعاني من الهجر والأسية كأنها تمنح النساء مساحة جديدة يصبح فيها التعاطي مع الحب ممكنا بعيدا عن عروض الطقطوقة الخلاعية وتكون فيها المرأة أكثر ندية ومساواة"، ثم تنتقل إلى رحلة أم كلثوم "من الآنسة إلى السيدة" مع أفلامها السينمائية التي على قلتها (6 أفلام) ساهمت في تكوين صورتها الخيالية عن الفتاة التي تنتمي الى عامة الناس لكنها تمتاز بموهبة فنية كبيرة واعتداد بالكرامة وجرأة على مواجهة منافسها الرئيسي عبد الوهاب الذي ظهر في الأفلام كشاب لاهٍ، وكيف ساهمت هذه الصورة في ما بعد، وبالتزامن مع ثورة 1952، في تكريس صورة "الست"، في زعامة موازية لشخصية الزعيم جمال عبد الناصر.
تتحدّث الكاتبة في الفصل التالي عن بدايات الانتقال إلى الحداثة الموسيقية، من خلال ظهور المطربين في الحفلات العامة منذ تأسيس القاهرة الخديوية ومسرح الأزبكية، وكان من نجومه في تلك الفترة عبد الحيّ حلمي وسلامة حجازي اللذان لعبا دورا مؤثرا في تطور المسرح الغنائي بالتوازي مع ظهور ملحنين مثل كامل الخلعي والشيخ أبو العلا محمد، وغيرهما، كما تشير كراوية إلى أثر ظهور شركات الأسطوانات الأجنبية على شكل الساحة الغنائية والقوالب السائدة من الغناء، إذ بدأت بتسجيل الأدوار والقصائد التي اعتبرت أفضل ما أنتجه الطرب في ذلك الوقت. تشير كذلك إلى أثر سيد درويش و"صناعة أسطورته" التي بدأت بوفاته المبكرة (1932) وتراكمت بعد ذلك عبر مراحل، والذي أصبح يُستدعى وتُستدعى أغانيه في كل مناسبة تاريخية مصرية كبرى.
تفرد كراوية فصلا عن عبد الوهاب وتتناول التجديد الذي قاده ونقلاته الموسيقية لا سيما بعد استقرار نجوميته وثقته في مهاراته الأدائية، واستمراره في تطوير موسيقاه دافعا عن نفسه تهمة التأثر بسيد درويش، والانطلاق إلى تنويعات موسيقية وموتيفات جديدة، واستخدام سلالم موسيقية مختلفة داخل العمل الواحد، وتجاوز التقطيع التقليدي للشعر العمودي نحو جمل لحنية مختلفة الأطوال والأوزان، واختياره بعد ذلك تسجيل أغانيه صوتيا وابتعاده عن الحفلات، حيث ظهر في تسجيلاته قدر من المرونة في استيعاب أشكال سابقة داخل أغانيه مثل الموال والغناء الحر والارتجال وغير ذلك.
ترصد فيروز كراوية مع بداية الأربعينات صعود المدحّ المحافظ الإسلامي في تلقّي الأغنية واعتبارها مفسدة للذوق المصري، وتصاعد تأثير جماعة الإخوان المسلمين في المجتمع بعد انقسامات حزب الأغلبية (الوفد) وتأجّج الصراع الاجتماعي والطبقي الذي وصل ذروته في حريق القاهرة 1952، بل وتورد مقالا لسيد قطب يهاجم فيه بعض المطربين في مجلة "الرسالة" 1940، ثم التحول الذي حدث في مصر بداية الخمسينات حيث شاعت صورة المثقف الذي يعرف مصلحة الشعب ويحظى باعتراف الدولة، وبالتالي يرتقي "بالوعي والوجدان" ويحمل "الرسالة"، وهي صورة لم تكن مطبقة على كل فنان بالضرورة لكنها صنعت كنموذج استرشادي في البيانات والخطابات الرسمية.
في الفصل الثالث من الكتاب، وتحت عنوان "عندما تمسك الدولة الميكروفون"، تتحدّث كراوية عن تحولات الإنتاج الفني بعد ثورة 1952 بعدما كانت التسجيلات الصوتية تتم من خلال شركتي "بيضافون" اللبنانية و"كايروفون" التي كانت شراكة بين عبد الوهاب وعبد الحليم ومجدي العمروسي، الى أن أسّس محمد فوزي بعد الثورة "جمعية المؤلفين والملحنين" ومصنع الشرق للأسطوانات 1957 ليكسر احتكار الشركتين ويسعى الى توطين الصناعات والإفادة من عوائدها الاقتصادية، فوصل إلى نحو مئة ألف إصدار سنويا!
ظهر بعد ذلك نظام الرقابة على المصنفات الفنية الذي يتيح للسلطات حذف أو تعديل أو رفض الأعمال الفنية من دون رقابة القضاء، وكانت قوانين الأحكام العرفية وقانون الطوارئ التي خضعت لها البلاد في ما بعد هي ملجأ السلطات لفرض مثل تلك الرقابة المسبقة أو مصادرة الكتب والصحف غير المرغوب فيها دون اللجوء الى القضاء، وتشير كراوية بعد ذلك إلى ظهور الأغنية الوطنية كنموذج أمثل للتعاون بين السلطة والفنان، سواء في الحروب أو مناسبات "أعياد الثورة" الرسمية، وفيها يتجلى التلحين السريع والكتابة المباشرة للحدث الذي تقدم فيه الأغنية، وكانت مهمة تلك الأغاني بالطبع الإشادة المطلقة بالنظام والتغني بشعاراته، وكان أبرز من يقدمها رسميا عبد الحليم حافظ بالتوازي مع أغانٍ أخرى شعبية قدمها محمد رشدي ومحمد طه وغيرهم.
في بداية الستينات تأسّست شركة "صوت القاهرة" التي استحوذت على شركات التسجيل المنافسة الأخرى (بما فيها شركة محمد فوزي بعدما أثقلته الديون وأرهقه المرض) وكانت مدعومة بإمكانات الدولة التي أنتجت العديد من الإسطوانات وتمكنت من بيعها على نطاق واسع بالإضافة إلى تمكّنها من التعاقد مع عدد كبير من الفنانين في مقدّمهم أم كلثوم وعبد الحليم حافظ وفايزة أحمد وصباح وغيرهم، وفي الوقت نفسه واجه الفنانون أنماطا متعددة من الرقابة الحكومية والدينية على منتجهم الغنائي، وتورد كراوية بعضا من نماذج الرقابة والمصادرة والمقالات التي تهاجم ما سمته "الأغاني الخليعة" في ذلك الوقت.
يختلف المشهد كليا مع هزيمة 1967 لا سيما مع شعور عدد من الكتاب والملحنين بوطأة الهزيمة (مثلا صلاح جاهين وكمال الطويل) واستُدعي عدد آخر لكتابة أغنيات تعبر عن المرحلة وتدعو لتجاوزها ("عدّى النهار" لعبد الحليم) وكتب الأبنودي عددا من الأغنيات وهو في السويس قريبا من المعركة بالتعاون مع إبراهيم رجب ومحمد حمام، وتزامن مع ذلك ظهور ثنائي مختلف ينتقد الأوضاع القائمة ويسمع صوته القادم من بعيد، حيث اجتمع الشاعر أحمد فؤاد نجم مع الشيخ إمام عيسى وقررا أن يتوجها إلى الزجل الاجتماعي السياسي تفاعلا مع الظروف الصعبة المتوالية، وبدأت شهرة نجم تتوسع وأغانيه تنتشر الى حين اعتقاله في 1969 ولم يخرج حتى وفاة عبد الناصر.