لا شيء أو لا جديد فلسطينيا، بعد اجتماع القيادات الفلسطينية في "العلمين"، سوى مزيد من الإحباط وخيبة الأمل وتأكيد أن الفصائل الفلسطينية باتت منفصمة عن الشعب ولا يهمها سوى إعادة إنتاج ذاتها بطريقة بائسة، على حساب قضية الفلسطينيين، وبطريقة تقيّد إمكانيات تطور حركتهم الوطنية، إذ انتهى الاجتماع إلى مجرد بيان أو إعلان نوايا، وتشكيل لجنة لاستكمال الحوار، الذي بات له قرابة عقدين، فقط بهدف "إنهاء الانقسام وتحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية"!
وهكذا بات اجتماع القيادات الفلسطينية يشبه "طبخة بحص" (زلط)، تصدر صوتا عند تقليبها في الإناء، لكنها لا تصلح للطعام.
معلوم أن تلك هي نفسها محصلة لقاءات الحوار والمصالحة العديدة والمضنية المكررة في القاهرة ومكة والدوحة وصنعاء وإسطنبول وغزة وبيروت ورام الله والجزائر، التي بدأ مسلسلها منذ تفجّر الانقسام الفلسطيني، مع الانتخابات التشريعية الثانية (2006)، التي لم تأت لصالح حركة "فتح"، ثم تفاقمت بعد الانقسام في كيان السلطة (2007)، بين الضفة وغزة، مع هيمنة حركة "حماس" بطريقة أحادية وبواسطة القوة على قطاع غزة، وهو الأمر ذاته الذي يصحّ على سلطة "فتح" في الضفة، وبما يخص هيمنتها الأحادية على منظمة التحرير الفلسطينية.
بدا مشهد الاجتماع بالغ المأساوية، فالرئيس محمود عباس، وهو رئيس المنظمة والسلطة و"فتح"، في أواخر الثمانينات من عمره، ومثله معظم القيادات، تقريبا، أي لا صلة لهم بالأجيال الجديدة من الفلسطينيين، ومنهم من لم يسمع به أحد. أيضا، معظم الفصائل الـ11 (ومعها الفصائل التي لم تحضر) مستهلكة، ومتقادمة، لم يتبق منها سوى أمنائها العامين، وليس لها مكانة تمثيلية تذكر في مجتمعات الفلسطينيين، ولا دور في الصراع ضد إسرائيل، ولا أية هوية سياسية أو فكرية تميزها عن بعضها.
ما فاقم من مأساوية مشهد الاجتماع تزامنه مع اندلاع اشتباكات عنيفة ومدمرة في مخيم عين الحلوة للفلسطينيين، بقذائف الـ"آر بي جي"، دون مراجعة جدوى ووظيفة السلاح الفلسطيني في مخيمات لبنان، وكذا مع مظاهرات صاخبة في بعض مدن قطاع غزة لفلسطينيين يطالبون بالحد الأدنى للعيش، من كهرباء وغذاء، وتخفيف من الضرائب، بالإضافة إلى المطالبات بالإفراج عن المعتقلين في الضفة.
بدا مشهد الاجتماع بالغ المأساوية، فالرئيس محمود عباس، وهو رئيس المنظمة والسلطة و"فتح"، في أواخر الثمانينات من عمره، ومثله معظم القيادات، تقريبا، أي لا صلة لهم بالأجيال الجديدة من الفلسطينيين، ومنهم من لم يسمع به أحد
المغزى هنا أن القضية الفلسطينية في مكان والقيادات باتت في مكان آخر، وأن الشعب الفلسطيني في مكان والفصائل باتت في مكان آخر، إذ كل المسألة لدى تلك القيادات والفصائل، سيما الفصيلين الأكبر، "فتح" و"حماس"، باتت مختزلة بالتصارع بينهما على المكانة والموارد والهيمنة، وبترسيخ مكانة كل واحدة منهما، حيث الأولى سلطة في الضفة، والثانية سلطة في قطاع غزة.
فوق كل ما تقدم، فإن مشهد الاجتماع يشي باستخفاف كبير، من تلك القيادات، بعقول الفلسطينيين، كأن هؤلاء مع مآسيهم وتضحياتهم وبطولاتهم، على امتداد قرن، وضمنها 58 عاما، في التجربة الوطنية المعاصرة، هم شعب من السذج!
وإذا تجاوزنا، الوثائق المعدة للمصالحة الوطنية، بدءا من وثيقة الأسرى (وثيقة الوفاق الوطني 2006)، وكل المباحثات، وحفلات الاحتضان، بين عباس ومشعل، وعباس وهنية، وقيادات "فتح" و"حماس"، في القاهرة والدوحة وصنعاء والجزائر وإسطنبول وبيروت، والبيانات التي صدرت عنها، فثمة الاجتماعات التي حصلت قبل ثلاثة أعوام بالضبط، والتي بدأها القياديان في "فتح" جبريل الرجوب، وفي "حماس" صالح العاروري، والتي توّجت باجتماعات لقيادات الفصائل، وبالتوافق على الذهاب نحو انتخابات تشريعية ورئاسية، وللمجلس الوطني الفلسطيني، بقرار وقعه الرئيس محمود عباس (يناير/كانون الثاني 2021)، آنذاك، والتي سرعان ما اجهضت، أيضا، بقرار من الرئيس ذاته بعد شهرين فقط (أبريل/نيسان 2021).
ثم في صيف العام 2021 جرت جولة مباحثات أخرى في القاهرة صدر عنها إعلان بتوافقات وطنية عامة، سرعان ما تم نفض اليد منها. وقد تكرر ذلك في الاجتماع بين الرئيس محمود عباس ورئيس المكتب السياسي لحماس إسماعيل هنية، الذي عقد بمبادرة وبرعاية من الرئيس الجزائري، قبل عام (يوليو/تموز 2022)، والذي استكمل بحوارات بين محمود العالول، القيادي في "فتح"، وخليل الحية القيادي في "حماس" (سبتمبر/أيلول الماضي)، وكلها لم تفض إلى شيء.
الفلسطينيون إزاء فصائل انتهى دورها التاريخي منذ زمن، وتلك الفصائل لا تبحث عن حل لإعادة بناء الحالة الوطنية الفلسطينية، وتجديد شبابها، وإنما عما يمكنها من التعايش مع الانقسام، أو بنوع من تقاسم الشراكة بين الفصيلين الكبيرين (فتح وحماس)
على ذلك، لا جديد اليوم، فالفلسطينيون إزاء فصائل انتهى دورها التاريخي منذ زمن بطريقة موضوعية وذاتية، أيضا، تلك الفصائل لا تبحث عن حل لإعادة بناء الحالة الوطنية الفلسطينية، وتجديد شبابها، وإنما عما يمكنها من التعايش مع الانقسام، أو بنوع من تقاسم الشراكة بين الفصيلين الكبيرين (فتح وحماس).
ما يفترض إدراكه هنا أن الأزمة الوطنية عند الفلسطينيين لا تتعلق فقط بافتقاد كياناتهم السياسية للشرعية، وبحال الانقسام في جسمهم الوطني، فحسب، فهي أزمة عضوية وعميقة، كونها أزمة كيانات وطنية متقادمة لم يعد لديها ما تضيفه، وأيضا هي أزمة ناجمة عن افتقاد الفلسطينيين لرؤية وطنية جامعة، تتأسس على إعادة التطابق بين الشعب والأرض والقضية، كما افتقادهم لاستراتيجية كفاحية، مسؤولة ومستدامة وممكنة ويمكن الاستثمار فيها، وضمن ذلك يأتي تحول حركتهم الوطنية، من حركة تحرر وطني إلى سلطة تحت الاحتلال، على الشعب الفلسطيني، بكل ما تعنيه الكلمة، وكل ما يترتب عليها. للأسف تلك هي تركة الفصائل البائسة.