عندما يتطرق المراقبون الاقتصاديون الى الأوضاع الاقتصادية في مصر، يتناسون الحديث عن أهمية إحياء القطاع الزراعي وتعزيز مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي وإيجاد فرص العمل. كل من يزور المعابد الفرعونية والمعالم الأثرية، لا بد له من أن يلاحظ صورا ونقوشا لآلات الحرث والري والحصاد ومخازن الغلال على جدران هذه المعابد. كان الفراعنة يهتمون بالزراعة ونتاجها بشكل متميز، حيث أنهم وضعوا تقويمات للمواسم الزراعية، مستفيدين من جريان نهر النيل والإقامة على واديه.
لم يكن اهتمام الفراعنة بالزراعة عشوائياً، بل عمدوا الى تأسيس قواعد للري على أسس هندسية محترفة، وبنوا السدود وتمكنوا من شق قنوات الري المتصلة بالنهر العظيم، إضافة إلى خزانات المياه. استمر الاهتمام بالزراعة على مدى العصور والحقب المختلفة، وتوسعت الرقعة الزراعية، وعندما بدأ العصر الإسلامي في مصر زاد الاهتمام باستصلاح الأراضي وتهيئتها للزراعة، خصوصاً تلك المخصصة لزراعة الحبوب لمواجهة احتياجات البشر الذين تزايدت أعدادهم على مر الزمن.
تحولات القرن الماضي
كان العمل في الزراعة ديدن المصريين على مدى قرون ومنذ زمن سحيق، إلا أن المؤرخين رصدوا التطورات في القطاع الزراعي خلال القرن العشرين ومنذ بدايته. ظلت مساحة الأراضي الزراعية محدودة نسبياً، ولم تتجاوز 32 ألف كيلومتر مربع من مساحة مصر الإجمالية البالغة مليون كيلومتر مربع. بموجب التقارير البريطانية، بلغ عدد سكان مصر 17 مليون نسمة في منتصف الأربعينات من القرن الماضي، منهم 12 مليون نسمة يعتمدون على الزراعة بشكل مباشر أو غير مباشر. تضيف تلك التقارير أن ثلثي الأراضي الزراعية كانت مملوكة من 6 في المئة من سكان البلاد، في حين امتلك الثلث الباقي أكثر من 1,5 مليون شخص، لا تزيد ملكية الفرد منهم على ثلث فدان. استأجر بعضهم مساحات صغيرة، في حين لا يملك الكثير من الباقين أي مساحات زراعية ويعملون بالأجر لحساب الغير. لم تكن الظروف الصحية مواتية، وانتشرت أمراض في القرى ومنها أمراض مميتة مثل البلهارسيا والانكلستوما. كما أن التعليم ظل متواضعا أو غير متاح لأبناء الفلاحين، في وقت بقيت إمكانات الإنتاج الزراعي واعدة وتمكن المزارعون من زراعة القطن، الذي انتعشت زراعته، ثم الصناعة النسيجية القائمة عليه مذ تولى محمد علي باشا السلطة في القرن التاسع عشر. تضاف إلى ذلك، قدرة الزراعة على توفير غلال غذائية منها محاصيل الحبوب مثل الأرز والقمح والذرة الشامية ومحاصيل السكر والبقوليات وفول الصويا والفول البلدي وغيرها.
لم يكن اهتمام الفراعنة بالزراعة عشوائياً، بل عمدوا الى تأسيس قواعد للري على أسس هندسية محترفة، وبنوا السدود وتمكنوا من شق قنوات الري المتصلة بالنهر العظيم، إضافة إلى خزانات المياه. كان العمل في الزراعة ديدن المصريين على مدى قرون ومنذ زمن سحيق
عندما تولى الجيش السلطة في مصر بعد ثورة 23 يوليو/تموز 1952، أقر قانون الإصلاح الزراعي، الذي صدر في سبتمبر/أيلول 1952، وبنيت فلسفته على استرداد الأراضي من الملّاك الكبار، وتوزيعها على الفلاحين العاملين في الزراعة. في بداية الأمر، حددت الملكية بـ200 فدان للملّاك القدامى، ثم جرت تعديلات لاحقة خفضت الملكية إلى خمسين فدانا للفرد أو الأسرة. واستهدف القانون تحويل الفلاحين والأجراء إلى ملّاك للأرض الزراعية والعمل لحسابهم وإنتاج المحاصيل. لكن عيوبا كثيرة شابت هذه التحولات، حيث تحولت الأراضي الزراعية إلى استخدامات عقارية متنوعة، وتراجعت رقعة الأراضي المزروعة، وتزايدت أعداد المهاجرين من الريف إلى المدن. كما أن الكثير من هؤلاء الفلاحين أقدموا على بيع ما خصص لهم من أفدنة من أجل الحصول على الأموال السائلة. في طبيعة الحال، عملت الحكومات المتعاقبة بعد ثورة يوليو/تموز على معالجة القطاع الزراعي وتمكنت من بناء السد العالي لتوفير المياه على مدار العام، كما وفرت أدوات تمويلية للمزارعين وعززت الأوضاع الصحية وأتاحت التعليم لأبناء الفلاحين.
بين الفرص والتحديات
أشار الدكتور جودة عبد الخالق، الاقتصادي المصري المرموق، الذي عمل وزيراً للتضامن والعدالة الاجتماعية بعد ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، في مقال نشر في جريدة "الأهالي" المصرية بتاريخ 14 يونيو/حزيران 2023، تحت عنوان "الزراعة والفلاح على مائدة الحوار الوطني"، إلى أن الزراعة هي مقوم أساسي للاقتصاد الوطني، وقد نص الدستور على ذلك. كما أكد أن القطاع الزراعي هو المشغل الأكبر للأيدي العاملة في البلاد. وطالب بالاهتمام بالقطاع الزراعي من خلال تحديد أهميته للأمن الغذائي وزيادة حجم الاستثمار في الزراعة وتحديد المركب المحصولي، بالإضافة إلى تطوير آليات عمل وعلاقات بين المزارعين والجهات الحكومية وغيرها. لا شك أن هناك أهمية لاستعادة دور القطاع الزراعي في الحياة الاقتصادية في مصر وإنجاز تحولات بنيوية وتطوير أنظمة الإنتاج ورفع الكفاءة والاهتمام بالقرى في الأرياف من أجل تشجيع المواطنين على العمل في الزراعة.
تساهم الزراعة بنسبة تقارب 12 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي الذي بلغ 404 مليارات دولار في عام 2021، ولا يزال القطاع الزراعي المشغل الأكبر في سوق العمل حيث يوظف نحو 20 في المئة من العمالة المصرية الإجمالية
تساهم الزراعة حاليا بنسبة تقارب 12 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي الذي بلغ 404 مليار دولار في عام 2021. فكيف يمكن التغلب على التحديات التي يواجهها القطاع الزراعي وهل هناك امكانات لدعم دور القطاع الخاص في النشاط الزراعي وتعزيز القدرات على تصدير المنتجات الزراعية والمصنوعات المرتبطة بها، ناهيك بتوفير الأمن الغذائي للمصريين الذين تتزايد أعدادهم بنسبة 2 في المئة سنوياً بعدما بلغوا 105 ملايين نسمة؟
لا شك أن الإدارة السياسية في مصر، تأمل إنجاز إصلاحات هيكلية في مختلف القطاعات الاقتصادية ومن أهمها القطاع الزراعي، واستزراع مناطق صحراوية بعيدة عن وادي النيل، وثمة جهود مضنية بذلت حتى الآن بدأت تحقق نتائج ملموسة. لكن في ظل المعطيات الديموغرافية والتحديات الاقتصادية ومحدودية الموارد المالية المتاحة، لا بد من الانفتاح وتعزيز دور الاستثمار الأجنبي من خلال تشريعات وأنظمة ملائمة.
لا يزال القطاع الزراعي يمثل أهمية في سوق العمل حيث يوظف 20 في المئة من العمالة المصرية الإجمالية، بموجب بيانات منظمة العمل الدولية للعام 2021. هناك تراجع في أعداد العاملين في الزراعة لصالح القطاعات الخدمية أو نتيجة الهجرة إلى الخارج، لكن القطاع يظل قادراً على إيجاد فرص العمل متى ما توفرت الاستثمارات المناسبة في ظل إدارة اقتصادية واعية بأهمية الزراعة.