"تغرّبْ عن الأوطان والحال والحق عساك تحوزُ الأمر في مقعد الصدق"
ابن عربي، الفتوحات
"الإقامة على حال واحد نفسين فصاعدا لا يعوّل عليه عند أكابر الرجال".
رسائل ابن عربي، رسالة لا يعوّل عليه
"تسألني ما إذا كنت لا أتحرك، ولا أسافر. لي، مثل الجميع، أسفاري التي تراوح مكانها، والتي لا يمكنني أن أقيسها إلا بما تثيره فيّ من انفعالات، فأعبر عنها بأكثر الطرق لفّا ودورانا في ما أكتبه".
ج. دولوز
لا ينتظر الإنسان اليوم العطل كي يسافر ويرحل. فالعالم لا ينفك يعجّ حركة وتنقلا. الجميع يتنقل ويرحل. الوجود ذاته، كما يقول الشيخ الأكبر "لما كانمبدأهُ على الحركة لمْ يتمكّن أنْ يكونَ فيه سكون، لأنّه لوْ سكنَ لعادَ إلى أصله وهو العدم، فلا يزالُ السّفرُ أبدا في العالم العُلويّ والسُّفليّ".
أهداف السفر بطبيعة الحال ليست هي هي على الدوام. هناك من يسافر ليس بين الأوطان والأمكنة فحسب، بل حتى بين الأفكار والثقافات. وهذه حال شيخنا الذي كتب: "فلا نزالُ في سَفر أبدا من وقتِ نشأتِنا ونشأةِ أصولنا إلى ما لا نهاية له، وإذا لاحَ لك منزلٌ تقولُ فيه هذا هو الغاية انفتحَ عليك منهُ طرائقُ أخر، تزوَّدْتَ منه وانصرَفتَ. فما من منزلٍ تُشرفُ عليه إلاّ ويُمْكنُ أن تقولَ هو غايتي، ثمّ إنّكَ إذا وصَلتَ إليه لمْ تلبثْ أن تخرجَ عنه راحلا".
وبينما من المسافرين من لا يتنقل إلا "طلبا للراحة والاستجمام" كما يقال، فإن منهم من يتنقل، كما يزعم، "قصد البحث عن آباء جدد"، من يتنقل بهدف الانفصال، رغم أن هذا التنقل غالبا ما يكون انفصالا واهما، أو، على حد تعبير ج. دولوز "انفصالا بثمن بخس"، مهما كانت تكلفته المادية.
رغم هذه "العدالة الحركية" الظاهرة، فإن باستطاعتنا أن نميّز بين أشكال متدرجة من التنقل: هناك أولا من يسافر رغبة في السفر، ثم هناك من لا اختيار له غير الهجرة. هناك السائح، وهناك السائح على الرغم من أنفه. هناك من يسافر ليحترق بأشعة الشمس، وهناك من "يحترق" وهو ما زال في طريق السفر.
على عكس الأهداف المعنوية التي يتوخاها الرحّال السائح، والتي تتدرج من مجرد البحث عن الراحة إلى "البحث عن آباء جدد"، فان أهداف المهاجر لا ترتفع إلى هذا المستوى المعنوي لتظلّ سعيا وراء القوت اليومي، أو العيش فرارا من القهر والظلم
على عكس الأهداف المعنوية التي يتوخاها الرحّال السائح، والتي تتدرج من مجرد البحث عن الراحة إلى "البحث عن آباء جدد"، فان أهداف المهاجر لا ترتفع إلى هذا المستوى المعنوي لتظلّ سعيا وراء القوت اليومي، أو العيش فرارا من القهر والظلم. ورغم ذلك فإن السائح غالبا ما يدرك عند نهاية طوافه أن استبدال الأمكنة، والإطلالة على ثقافات أخرى، لا يكفيان وحدهما لتحقيق انفصال فعلي. والتاريخ يشهد أنها تجارب نادرة تلك التي تمكَّن فيها بعض من هجروا أوطانهم من "اكتشاف آباء جدد"، وتحويل رحلاتهم إلى "هجرة" حقيقية، واغتراب فعلي.
لعل هذا هو ما يدركه صنف ثالث من "المتنقلين" الذين لا يكتفون بهذا الانفصال الوهمي، والذين يرحلون بالضبط تشبثا بأراضيهم. هنا يغدو الترحال تحديا للمكان وليس هروبا منه. هذه حال الرحّل الذين يتنقلون تشبثا بأرضهم، ومقاومة لشحّها. إنّهم يتنقّلون لأنهم ينشدّون إلى فضاءاتهم. كتب جيل دولوز: "المترحّل هو أيضا ليس بالضرورة ذاك الذي يتحرّك: هناك أسفار لا تراوح مكانها، تنقُّلات في الشدة، وحتى تاريخيا، فإن الرحّل ليسوا هم الذين يتنقلون مثل المهاجرين، العكس هو الصحيح، إنهم لا يتنقلون، فهم يترحّلون كي يقيموا في المكان ذاته".
بهذا المعنى فالترحال نشدان للغربة في ما هو مألوف، وتكريس للانفصال في ما هو متصل.بفضله تغدو الحركة استقرارا، والانفصال وصلا، والابتعاد اقترابا، والفقدان تملّكا
فلا أحد أكثر من الرَّحَّال تعلقا بموطنه. فهو لا يرتحل إلا انشدادا إلى موطنه وتعلّقا به. الرحّال لا يفتأ يتحايل كي لا يهاجر. إنه يتحدى المكان ولا يعطيهظهره، فهو لا "يولّي هاربا". إنه لا يدبر إلا لكي يقبل. ولا يبتعد إلا "فيمحل قربه" كما يقول التوحيدي. إنه لا ينفصل إلا وصلا واتصالا.إلا أنه يعلم أن الانشداد إلى الموطن ليس هبة تُعطى، وإنّما هو جهد وجهاد. فليس الترحّل تنقلا سهلا وتيهانا يجرّ صاحبه إلى أن يسبح في فراغ لانهائي. وهو ليس رفضا لكل تجذر، وتمجيدا ساذجا للحركة والتنقل. بل هو "سكون بخطى كبيرة". إنه خروج داخلي، وانفصال مرتبط. على مثل هؤلاء الرُّحَّل تصدق قولة أبي حيان التوحيدي: "أبعد البعداء من كان بعيدا في محل قربه".
يعرف الرحّال أنّ موته في توقّفه عن المقاومة وتخلّيه عن التحدّي. إنهما ينفكّ يتجنّب الاستقرار البليد، والاستيطان الخامل، والتعلّق الرخيصبالثوابت. فهو يؤمن أنه "لا يملك إلا المسافات التي تُبعده".بهذا المعنى فالترحال نشدان للغربة في ما هو مألوف، وتكريس للانفصال في ما هو متصل. بفضله تغدو الحركة استقرارا، والانفصال وصلا، والابتعاد اقترابا، والفقدان تملّكا، والاختلاف هوية، والاغتراب ألفة، والتنقل إقامة، والهجرة عمارة.