تبعها العثور على طفلين حديثي الولادة داخل كرتونة تحت جسر نهر إبراهيم شمال العاصمة بيروت مع اللحظات الأولى من دخول يوم 20 يوليو/ تموز. الطفلة الأولى نقلت الى مستشفى حكومي في طرابلس لمعالجتها، على أن تسلم بعد تعافيها الى أحد دور الأيتام الخاصة.
أما الطفلان الآخران، فأشرف كاهن على نقلهما إلى مستشفى خاص قريب من مكان العثور عليهما، وأطلق عليهما اسمي إيلي وإيليان بمناسبة عيد النبي إيليا، على أن يسلم الطفلان بعد خروجهما من المستشفى الى إحدى المؤسسات الاجتماعية التابعة للكنيسة المارونية لتربيتهما. ذلك أنه لا يوجد في لبنان دور أيتام حكومية، إذ استعاضت الحكومات المتعاقبة عن ذلك بدعم دور الأيتام والجمعيات الخاصة بطريقة سياسية استنسابية.
ظاهرة التخلص من الأطفال حديثي الولادة بهذه الطريقة ليست حديثة العهد في لبنان، بل عمرها سنوات، وقد بدأت في الظهور بالتزامن مع ارتفاع مؤشرات الفقر قبل انفجار الأزمة الاقتصادية والمالية بقليل. في مارس/ آذار 2019، أفردت وسائل الإعلام المحلية مساحة للحديث عن هذه الظاهرة عقب العثور على 3 أطفال حديثي الولادة في مدن مختلفة خلال أسبوع واحد فقط. قبلها نشرت صحيفة الرأي الكويتية في ديسمبر/ كانون الأول 2014 تحقيقا للصحافية اللبنانية المتخصصة في القضايا الاجتماعية أسرار شبارو، أشارت فيه الى أنه في تلك السنة وحدها هناك 11 حالة لمن أسمتهم "أطفال الكرتونة" لأنهم يوضعون في كرتونة تترك قرب حاوية نفايات أو دار عبادة.
رغم فظاعة هذه الظاهرة، فإنها لا تشكل سوى رأس جبل الجليد، فالحال أسوأ بكثير. قبل أيام قليلة، قضت طفلة في عمر الورود (5 أعوام) في منطقة المنية شمال لبنان، بسبب نزيف ناجم عن تعرضها للاغتصاب لأكثر من مرة من قبل جدّها لأمها حسبما خلصت اليه التحقيقات في القضية.
قبلها بنحو عام تقريبا، كشفت قوى الأمن اللبنانية عن حالات اغتصاب لأطفال في بلدة القاع الحدودية شرق لبنان قام بها شاب من القرية نفسها وعلى مدى أشهر. وما بينهما كُشفت حوادث أخرى في عدة مناطق.
رحلة الدم
تستوجب دراسة أي ظاهرة تحدث في مجتمع ما، الرجوع إلى السنوات التي سبقت انفجارها، ذلك أن الظواهر السلبية والمخيفة مثل الأمراض أو الفيروسات التي تستقر تحت الجلد، تنتظر ردحا من الزمن حتى تظهر علانية، بعد أن تكون قد أنهكت الجسد وأوهنته، وعطلّت قدراته المناعية.
لا ريب أن أغلب الظواهر السلبية التي يعاني منها لبنان في السنوات الأخيرة حديثة العهد، وتعدّ من روافد الأزمة الاقتصادية التي تفجّرت في خريف عام 2019، وتولدت منها سلسلة أزمات مالية ومعيشية واجتماعية وتربوية وثقافية، وإن كانت نذرها بدأت قبل ذلك بسنوات. سلسلة الأزمات هذه ما كانت لتتطور بهذا الشكل المخيف لو كانت النخب السياسية في لبنان تريد حلا حقا، وبمرور الوقت تعمقت أكثر، وأدخلت منظومة القيم المجتمعية في حال غيبوبة.
بيد أن التدقيق في تاريخ لبنان المعاصر، وتاريخ المدن والمناطق التي صارت لبنانا فيما بعد، في القرن الذي سبق ولادة الكيان، يشير الى ظاهرة أكثر قدما ورسوخا. ظاهرة تحولت الى ثقافة وهي ظاهرة القتل التي هي أقرب الى عقدة لبنانية نمت وكبرت على وقع كراهية الآخر، أيا كانت هوية هذا الآخر الاجتماعية. القتل لأسباب محلية سواء كانت عشائرية أم مجتمعية، القتل اغتيالا لأسباب محض سياسية، والقتل لأجل القتل فقط، على طريقة الفن من أجل الفن. ومن هذه الثقافة انطلقت منذ أمد بعيد رحلة دم لما تصل بعد الى محطتها الأخيرة.
آخر الشواهد على هذه الظاهرة أو الرحلة، وأكثرها إثارة للجدل والانقسامات الطائفية والمناطقية في بلد تترسّخ فيه الطائفية في كل شيء، حتى في الهواء الذي يدخل الى الغرف الخانقة، هي مقتل شابين في نزاع عمره عقود بين بلدتين شمال لبنان، واحدة سنية والثانية مارونية، على ملكية قمة القرنة السوداء، أعلى القمم الجبلية في الشرق الأوسط.
ومعها وقبلها، نزاعات وصراعات لا تنتهي بين أبناء مدينة وأخرى، وبين أبناء المدينة الواحدة، والقرية الواحدة، والحي الواحد، والعائلة الواحدة. نزاعات قليلها ينزف دما، وكثيرها يستولد كراهية وأحقادا تتناسل من أجيال لأخرى. رحلة الدم هذه تخفت أحيانا وتبرز أطوارا، وها نحن ذا في طور بروزها مرة جديدة. وعلى هامش هذه الرحلة وفي محطاتها العديدة نمت ظواهر مثل الاغتصاب والاتجار بالبشر والهجرة غير النظامية عبر قوارب الموت والتخلص من الأبناء وغيرها. وكلها ظواهر قاتلة، فإن لم تقتل بالمعني المادي، فإنها تقتل المجتمع معنويا وثقافيا وقيميا.
جرائم
خلال سنوات الأزمة منذ خريف عام 2019، لم يُسجّل في لبنان ارتفاع كبير في معدلات الجريمة. بل على العكس، تشير إحصاءات قوى الأمن الداخلي الى انخفاض بعض أشكال الجريمة.
ومع أن هذه الأرقام لا تعبر عن الواقع بدقة، نظرا لاستنكاف الكثير من اللبنانيين عن الإبلاغ وتسجيل المحاضر لارتفاع التكلفة وانعدام الأمل في الوصول الى نتيجة، إلا أن المشكلة ليست في العدد أو الكم بل في النوعية، وأكثر منها في مدى تأثيرها على المجتمع.
أن يطلق ابن النار على والده، والعكس أيضا، أو أن تقوم إمرأة باستئجار قاتل للتخلص من زوجها، أو أن يقتل شاب حبيبته وأمها وشقيقاتها بدم بارد، ليست جرائم عادية أبدا، أو رقما عابرا في إحصاء. في الشهر الماضي حصلت جريمة أودت بحياة شاب في إحدى القرى كادت تنشب بسببها فتنة دموية بين قريتين ليتبيّن بعدها أن عم الضحية قتله بالخطأ، وأخفى جريمته.
وفي أكتوبر/ تشرين الأول 2021، قتل 5 أشخاص من عائلة واحدة في إحدى قرى شمال لبنان، في ردّ ثأري على حادثة قتل سابقة بسبب خلاف على أفضلية مرور. استمرّ مسلسل الثأر بقيام شقيقة واحد من القتلى الخمسة باستدراج أحد الفاعلين وتصفيته في فبراير/ شباط الماضي.
كذلك الحال ليس عاديا أبدا أن تحدث خلال شهر واحد فقط عدة اشتباكات مسلحة في أكثر من منطقة ومدينة لأسباب واهية جدا. فبين الحين والآخر، تندلع اشتباكات تستخدم فيها الأسلحة الثقيلة بين عائلات في الضاحية الجنوبية لبيروت، واشتباكات مماثلة بين عشائر في البقاع، وأغلب هذه الاشتباكات لا يرد ذكر سببها في الإعلام نظرا إلى سخافته.