إفريقيا: "دومينو" الانقلابات المتعاقبة

في ضوء الانقلاب في النيجر

Reuters
Reuters
متظاهرون موالون للانقلاب يرفعون العلم الروسي في نيامي عاصمة النيجر في 30 يوليو

إفريقيا: "دومينو" الانقلابات المتعاقبة

أتى انقلاب السادس والعشرين من يوليو/تموز في النيجر، ليؤكد أن عودة ظاهرة الانقلابات العسكرية إلى القارة السمراء، لها تأثير الدومينو خاصة في الساحل وغرب أفريقيا، نظرا إلى تتالي الانقلابات منذ 2020 في مالي والسودان وغينيا كوناكري وبوركينا فاسو وغينيا بيساو وصولا إلى النيجر.

وإذا استتب الأمر للانقلابيين سنكون أمام تحول جيوسياسي يمثل ضربة قوية للمصالح الفرنسية، ويقوض أهم مواقع النفوذ الغربي في أفريقيا، ويهدد جهود مكافحة الإرهاب. وما رفعُ أعلام روسيا من قبل متظاهرين داعمين للانقلاب في نيامي، إلا دليل على الاختراق الروسي عبر مجموعة "فاغنر" الناشطة في حوالي عشرة بلدان أفريقية. لذلك يعد الحدث النيجري تطورا خطيرا لجهة إعادة تركيب المشهد الاستراتيجي في منطقة حيوية، مع احتمال امتداد تداعيات الانقلاب نحو الجوار المباشر، وأن يكون تأكيدا لتراجع موقع فرنسا والغرب في سياق التدافع الدولي نحو أفريقيا للتنافس على مقدرات القارة ومواردها.

ظاهرة الانقلابات العسكرية وأزمة الدولة الوطنية

يؤكد تكرار الانقلابات في السنوات الأخيرة أزمة الدولة الوطنية في أفريقيا والفشل في وضع حد لظاهرة الاستيلاء على السلطة بالقوة. إذ بلغ عدد المحاولات الانقلابية نحو 205 انقلابات وذلك منذ تحرر القارة السمراء من الاستعمار نهاية خمسينات وبداية ستينات القرن المنصرم.

ولوحظ أن التراجع الذي شهدته الموجة الانقلابية ما بعد نهاية الحرب الباردة وبداية الألفية الثالثة، أخذ ينحسر في العقد الماضي مع عودة هذه الظاهرة بزخم نتيجة احتدام التنافسية الدولية وفشل القوى الغربية (أبرزها فرنسا) في حملات مكافحة الإرهاب أو الإسهام في ربط التنمية بالديمقراطية المتعثرة والخجولة.

ومن اللافت أن المبررات نفسها التي ساقها الانقلابيون في سبعينات القرن العشرين ضد ثالوث الفساد والفقر وسوء الإدارة، يرددها كذلك الانقلابيون في 2020 مع زيادة الذرائع الأمنية نظرا لوجود المجموعات الإرهابية والمناطق الخارجة عن القانون. وفي هذه الحقبة يبقى "للبيان رقم واحد" وقعه، ولكن ليس عبر أثير الإذاعة، بل عبر شاشات التلفزة ووسائل التواصل الاجتماعي. وكان يراودنا الاعتقاد في زمن "الثورة الرقمية" وتطور وسائل الرقابة والتنصت والاختراق، بأن الانقلابات العسكرية ولت إلى غير رجعة وأنها صعبة التحقق، لكن وجود هذه الآليات بحوزة من قاموا بالانقلابات تسمح لهم بالتحكم الأمني والعسكري والنجاح في مشروعهم الانقلابي، مع غياب إمكانيات التدخل العسكري الخارجي كما كان يحصل مرارا في النصف الثاني من القرن العشرين.

يؤكد تكرار الانقلابات في السنوات الأخيرة أزمة الدولة الوطنية في أفريقيا والفشل في وضع حد لهذه الظاهرة

إن فشل بناء "الدولة الوطنية" والعودة إلى صراع الإثنيات والنزعات الإقليمية وصعود الإرهاب وحماة "الاقتصاد الأسود الموازي"، يرتبط مع أسباب بنيوية لتكرر الانقلابات: ضعف اقتصادات القارة، البيئة الأمنية المضطربة، عدم احترام المواثيق الديمقراطية، لجوء كثير من الحكام المدنيين إلى تمديد فترات حكمهم.

ومن أجل الإحاطة بالظاهرة الانقلابية الحديثة، تجدر الإشارة إلى فوارق وتباينات في الأسباب والدوافع، إذ إن الفشل في القتال ضد الجماعات الجهادية والإرهابية والمتمردة كان السبب المباشر الذي دفع الجيوش نحو الانقلاب في مالي وبوركينا فاسو. أما في غينيا وإلى حد ما في النيجر، فيبدو أن السبب المباشر هو رفض كبار الضباط نقلهم من مراكزهم وإعفاءهم من مسؤولياتهم. ولكن هذا لا يعني أن جيش النيجر لم يتأثر جراء الخسائر الفادحة التي تكبدها في الحرب ضد الإرهاب. 

AFP
اللجنة الوطنية للخلاص الشعبي تعلن الانقلاب على الرئيس محمد بازوم في 26 يوليو

في مطلق الأحوال. يمكن الاستنتاج أن الانقلابات في مالي وبوركينا فاسو وغينيا قد خلقت بيئة مواتية لسقوط النيجر بدورها في الحلقة الانقلابية. خاصة أن الإدانات والتهديدات الدولية بفرض عقوبات لم تمنع الجيش من القيام بإسقاط المؤسسات التي من المفترض أن يدافع عنها.

بالنسبة للدول العربية المجاورة، من المفارقات أن الجزائر لا تزال صامتة مع أن الانقلاب من شأنه دفع مزيد من المهاجرين والمهربين والإرهابيين نحو الجزائر. أما ليبيا التي ينحدر الرئيس النيجري محمد بازوم منها، والتي كانت ناشطة في حقبة القذافي، فيمكن أن تتحمل عبئا أكبر من نشاط الجماعات الإرهابية والمقاتلين الأجانب والمهاجرين على الحدود، وستكون هناك تساؤلات إذا كانت موريتانيا ستنجو من لعبة الدومينو، وإذا كان السودان معرضا لتدخلات مصدرها النيجر تزيد من حدة القتال فيه. 

بالنسبة لتطور الوضع بعد الانقلاب ومصير الرئيس محمد بازوم والوضع السياسي في نيامي، سيتوقف ذلك كثيرا على مدى انخراط مجموعة دول غرب أفريقيا في إسقاط الانقلاب، ومقدار استعدادات واشنطن وباريس للبقاء على هذا الصفيح الساخن. 

دروس الانقلابات وآفاق المرحلة القادمة 
 
الأدهى لفرنسا والغربيين يكمن في أن استخلاص دروس انقلابات مالي وبوركينا فاسو لم يكن مثمرا. بالفعل، هناك آثار سلبية للإرث الاستعماري الفرنسي وللممارسات الفرنسية المعاصرة، وهناك تحريض على فرنسا لإخراجها من الساحل. لكن إعطاء فرنسا الأولوية لمصالحها وحلفائها المحليين وفر مبررات كافية للغضب الذي أبداه الجيل الأفريقي الجديد وصغار الضباط، وفي مواجهة الانقلابات لم تكن ردود الفعل الفرنسية متجانسة إذ إنه مقابل الإدانة الحاسمة لما جرى في مالي وبوركينا فاسو، لم يكن الأمر كذلك في تشاد، فغداة مقتل المارشال إدريس ديبي إيتنو في 20 أبريل/نيسان 2021، أعلن مجلس عسكري بقيادة نجله تولي السلطة، في حين كان ينبغي أن يتولى رئيس البرلمان المنصب مؤقتا حتى إجراء انتخابات.
 

من المفارقات أن الجزائر لا تزال صامتة مع أن الانقلاب من شأنه دفع مزيد من المهاجرين والمهربين والإرهابيين نحو الجزائر

وسرعان ما أيدت فرنسا، الشريك الرئيس لتشاد، التحول العسكري، وهي تعتبره مذاك أنه ليس انقلابا. 

وتمثل الفشل الفرنسي والغربي أيضا في عدم نجاح جعل النيجر نموذجا للشراكة الغربية- المحلية في محاربة الإرهاب والتنمية، إذ إن التمركز العسكري الغربي في النيجر من أجل القتال ضد الفروع التابعة لـ"القاعدة" أو "داعش"، استند إلى سلة متكاملة لربط الأمن والتنمية والمساعدات الإنسانية. إلى جانب الحرب ضد الجهاديين. وبالإضافة إلى ذلك كان الأوروبيون يراهنون على أن تلعب النيجر دور "الشرطي" (الجندرمة) لمنع المهاجرين من التوجه نحو البحر الأبيض المتوسط، ناهيك عن أن هذه البلاد التي تضم 25 مليون نسمة، تعد منتجا رئيسا لليورانيوم في العالم.

مع هذا الانقلاب، من الواضح أن الدعم الغربي لم ينتج عنه التأثير المتوقع. لقد طال انتظار التنمية التي يأملها السكان. أما بالنسبة للانقلابيين، فإن تمركز 1500 جندي فرنسي وألف جندي أميركي ومائة جندي ألماني وتكوينهم العسكري الغربي لم يمنعهم من حمل السلاح ضد "السلطة المدنية". وهكذا يسقط رهان غربي آخر على حماية الحكم الديمقراطي أو المدني في بلاد ليست جاهزة، خاصة في ظل التنافسية الدولية، واستعداد "فاغنر" أو غيرها للعب دور الحماية للسلطات الجديدة مقابل الحصول على الموارد وتسهيل اختراق النفوذ الروسي.

منذ عام 2018، تمركزت مجموعة فاغنر في أفريقيا الوسطى من أجل حماية الحكم العسكري في بانغي. ولهذه المجموعة امتدادات من السودان وليبيا إلى أنغولا وموزمبيق ومالي وبوركينا فاسو، وهي تلعب أدوارا مختلفة. وفي غضون سنوات قليلة أصبحت أفريقيا الوسطى نموذج فاغنر لتصدير خدماتها من حيث إعطاء المثل في السيطرة الأمنية من دون التنبه للمفاهيم الغربية حول الديمقراطية وحقوق الإنسان، وترافق هذا الإنجاز مع انتزاع مميزات الدور الفرنسي في مجالات تدريب الجيش والحرس الرئاسي وأمن المؤسسات ومناجم الذهب والفضة مقابل حصة من الدخل والمنافع الاقتصادية علما أن الشركات الروسية مهتمة جدا وناشطة في مناجم الألماس والذهب وغيرها من المعادن في أفريقيا، تماما كما فرنسا التي تعتمد كثيرا على اليورانيوم الآتي خصوصا من النيجر.

من أجل استيعاب وفهم الفشل الفرنسي الذريع في الساحل، لا بد من العودة إلى التاريخ. 

AFP
مؤيدون لقوات الامن يراقبون مقر حزب الديمقراطية والاشتراكية الذي يترأسه الرئيس محمد بازوم بعد اضرام النار فيه في نيامي في 27 يوليو


أتى الاستعمار الفرنسي في الساحل متأخرا ويعود إلى 1898-1899، وذلك في المنطقة المسماة "السودان الفرنسي" (مالي والنيجر حاليا) وكانت أول قاعدة عسكرية فرنسية في مدينة غاو في مالي. وبعد سبعين عاما، تم إنهاء الاستعمار، وكانت الدول "المستقلة" مستنسخة وفق نموذج الدولة- الأمة على الطريقة الفرنسية من دون مراعاة التركيبات المحلية والأبعاد الثقافية.

وطوال سنوات ما بعد الاستقلال، لم ينجح غالبا نموذج الدول الوطنية في أفريقيا بسبب الانفجار السكاني والفقر المدقع والتدهور البيئي والفساد وسوء الإدارة وظهور الإسلام السياسي والمتشدد... وهكذا انهار كل شيء تقريبا ونرى عودة إلى الأنماط التقليدية للدول في الساحل والاتجاه نحو منطقة بلا حدود وكان لها تاريخ سياسي معين لأن منطقة الساحل في العصور الوسطى كانت تتكون من ثلاث إمبراطوريات: غانا، وسوسو، ومالي، وتشكلت لاحقا مملكة الطوارق وخلافة إسلامية في هذه الأنحاء. 
 

الأدهى لفرنسا والغربيين يكمن في أن استخلاص دروس انقلابات مالي وبوركينا فاسو لم يكن مثمرا

إن هذه العودة إلى الوراء تتيح لنا فهم تعقيدات وصعوبات المرحلة الحالية من التاريخ بشكل أفضل حيث لا يمكن للحلول الأمنية وحدها أن تكون ناجعة ولا بد من بناء نماذج خاصة للحداثة والتمثيل الشعبي. 

Reuters
الجنرال عبد الرحمن تياني الذي اعلنه الانقلابيون رئيسا للنيجر متوسطا الوزراء في نيامي في 28 يوليو

تعد أفريقيا قارة واعدة نظرا لتنوع وغنى مواردها الطبيعية، واحتياطاتها الضخمة في المعادن ومقوماتها البشرية الشابة. ولذلك يزداد الاهتمام بها للحصول على حصة من مواردها أو على نصيب من استثماراتها. وتأتي ظاهرة الانقلابات المتعاقبة لتزيد المخاوف من تحول منطقة غرب أفريقيا إلى مركز استقطاب دولي يخترقه المعسكر المعادي للغرب، ويكون معقلا جديدا للإرهاب ونقطة تمركز لإعادة ترتيب صفوف تنظيمي "داعش" و"القاعدة" ضمن مناطق رمادية أو خارجة عن القانون. وكل ذلك يزيد من صعوبة توقع مآلات هذه الحقبة من صراع الآخرين على أراضي وخيرات قارة المستقبل. ‬
 

font change


مقالات ذات صلة