يذكر البروفسور آلان ستيوارت بليندر، الذي يعتبر حاليا أحد الاقتصاديين الأكثر نفوذا وتأثيرا في العالم، وهو أستاذ الاقتصاد في جامعة "برينستون"، الذي سبق له أن شغل منصب نائب رئيس مجلس محافظي نظام الاحتياطي الفيديرالي، "أن آخر اهتمامات القيمين على شؤون المصرف المركزي وواجباتهم لديه، هو قول الحقيقة للجمهور".
يمكن أن نتلمس تعليق بليندر بوضوح عند متابعة آخر حديث وداعي لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، وذلك قبل انتهاء ولايته غدا في 31 يوليو/تموز 2023، حيث يغادر بعد ثلاثة عقود، تاركا وراءه المودعين وجنى أعمارهم في المصارف وحدهم، في مواجهة طبقة سياسية فاجرة.
في مسألة تمويل الدولة، كرر الحاكم على التوالي "أن الدولة استدانت من مصرف لبنان 20 مليار دولار"، كما "ترتب عليها مبلغ 16 مليار دولار نتيجة عمليات عدة نفذها لصالح الدولة"، موضحا أن "هذه الأموال ليست خسائر للمصرف المركزي"، و"أنه عندما تتعرض الدولة لأزمة ما، على "البنك المركزي" تأمين السيولة لتجنّب انهيار النظام بأكمله". لكنه من جانب آخر، أضاف "أن أولى خطوات الإصلاح الجدية تبدأ بإلغاء إمكان استدانة الدولة من مصرف لبنان"، في تناقض واضح مع ممارساته المتمثلة في تقديم شتى أنواع التمويل للخزينة من الأموال التي استقطبها من ادخارات المودعين في المصارف بالعملات الأجنبية، وفي ذلك مخالفة للقانون، وأيضا بخلاف الإطار القانوني المحدد لتمويل القطاع العام في الظروف الاستثنائية فقط وفي حالة الضرورة القصوى، وبمقتضى عقد بين الدولة والمصرف يعرض على مجلس النواب للموافقة عليه، وكلها قيود تجاوزها الحاكم أثناء ولاياته التي استمرت ثلاثين عاما.
بمقتضى القانون تمويل المصرف المركزي للقطاع العام يتم في الظروف الاستثنائية فقط، وفي حالة الضرورة القصوى، وبمقتضى عقد بين الدولة والمصرف يعرض على مجلس النواب للموافقة عليه، وكلها قيود تجاوزها الحاكم أثناء ولاياته التي استمرت ثلاثين عاما
في موضوع تثبيت سعر الصرف، ذكر الحاكم أن هذا الأمر استمر لأكثر من عقدين من الزمن، استنادا إلى ما ورد في البيانات الوزارية التي أعدتها الحكومات لنيل الثقة من مجلس النواب، في حين أن ما يجب الاعتداد به في الحقيقة، هو ضرورة صدور قرار صريح مشترك من مجلس الوزراء، صاحب الصلاحية الدستورية لرسم السياسات العامة، ومصرف لبنان الذي يحدد سعر الصرف المستهدف وسقوف تذبذباته، بعد نقاش مستفيض عن تكلفته ومصدر تمويلها، وهذا كله لم يحصل.
التعاميم والصيرفة و"الليلرة"
والكلام عن سعر الصرف، يستتبع بالحديث عن تعميمَي مصرف لبنان 151 و158 الشهيرين، اللذين فرضا سقفا للسحوبات بالعملات الأجنبية، وكذلك الـ"ليلرة"، أي أن تتم سحوبات العملات الأجنبية بالليرة اللبنانية، بسعر صرف أدنى بكثير من المعتمد في السوق الموازية، الأمر الذي نجم عنه "هيركات" (Haircut)، وهي اقتطاعات تراوحت بين الأربعين والثمانين في المئة من قيمة كل سحب. وبرر الحاكم الأمر بأن الافادة من التعميمين تعود مطلقا الى خيار المودع، وبأن مصرف لبنان لم يجبر أحدا على الأخذ بهما، وبأن أولئك الذين لجأوا إلى التعميمين كانوا على يقين بأنهما يخدمان مصالحهم، لكن من دون أن يوضح كيف أن استرداد شخص لوديعته باقتطاع قسري لقسم كبير من قيمتها خلافا للقانون هو أمر يخدم مصالحه.
ان تبرير تثبيت سعر الصرف خلال السنوات الثلاث التي تلت الأزمة لسحب الودائع بالعملات الاجنبية على سعر 1500 ليرة لبنانية للدولار الواحد كان كارثيا، وهو أدنى بكثير من سعر الصرف في السوق الموازية الذي فاق الـ 50 ألفا، ليبلغ راهنا 90 ألف ليرة للدولار الواحد، بحجة أن السعر الرسمي هو المعتمد في عمليات مصرف لبنان مع المصارف وحجمها أكبر بكثير من حجم العمليات في السوق الموازية. واستمرت هذه المقولة الزائفة إلى حين إنشاء مصرف لبنان منصة صيرفة لشراء الدولار وبيعه في إشرافه، حيث بات سعر صيرفة للدولار الواحد يقارب الـ 85 ألف ليرة لبنانية، أي أدنى ما بين الـ 6 و10 في المئة من سعر السوق الموازية، ولم يتم رفع سعر صرف الدولار لسحب الودائع بالعملات الأجنبية من المصارف إلا إلى 15 ألف ليرة، مما أفضى إلى أكبر عملية سطو وتذويب للودائع عرفها لبنان منذ نشأته.
سحوبات ودائع العملات الأجنبية بالليرة اللبنانية، بسعر صرف أدنى بكثير من المعتمد في السوق الموازية، نجم عنه "هيركات" (Haircut)، وهي اقتطاعات تراوحت بين الأربعين والثمانين في المئة، مما أفضى إلى أكبر عملية سطو وتذويب للودائع عرفها لبنان منذ نشأته
وشدد الحاكم في المقابلة التلفزيونية على ضرورة عدم إلغاء منصة صيرفة أو تعديل قواعدها التي جعلت من مصرف لبنان لاعبا أساسيا فيها، يعرض الدولار عند اللزوم، وقد استفادت منها على قوله شريحة واسعة من المواطنين وموظفي القطاع العام من خلال دولرة رواتبهم، وذلك من دون أية اشارة الى الانحرافات الخطيرة التي أفرزتها هذه المنصة، أبرزها تحول اللبنانيين الى مضاربين واستفادة فئات نافذة من عملياتها، في مقدمهم القيمون على المصارف، حيث تمر عمليات منصة صيرفة من خلالها، علما أن النص القانوني الذي ارتكز عليه لإنشاء المنصة يشير بشكل واضح إلى أن تدخل مصرف لبنان شاريا وبائعا للدولار يتم "مباشرة" مع الجمهور وليس من خلال المصارف.
— Asharq Business اقتصاد الشرق (@AsharqBusiness) February 8, 2023
وألمح الحاكم إلى تحفظه وتخوفه من مشروع يتدارسه نوابه للعمل به، يكون فيه لمصرف لبنان دور محايد في منصة صيرفة، كاشفا عن خلاف في الرأي معهم، أكده الأخيرون في كتاب رفعوه أخيرا إلى الحكومة. وأبرز هذا الخلاف حقيقة أن قرار إنشاء المنصة صدر من المجلس المركزي، أي بموافقة ضمنية من عدد من نواب الحاكم، أما تمديد أجل القرار فصدر باتفاق بين الحاكم ووزير المال فقط، مما يعني رجحان رأي الحاكم، الأمر الذي دعا البعض إلى القول بأن "ديكتاتورية" الأخير هي التي توجه أعمال المجلس المركزي لمصرف لبنان، وهذا ما نفاه الحاكم في المقابلة.
فجوة المصارف ومصرف لبنان
في الشأن المصرفي، ذكر الحاكم انه أعاد إلى المصارف ودائعها، ليعود ويقر بوجود فجوة مالية لدى مصرف لبنان قيمتها 57 مليار دولار، تمثل الفارق بين التزاماته للمصارف وما تبقى لديه من أموال جاهزة. من جهة أخرى، شدد على وجود ودائع الناس لدى المصارف وليس لدى مصرف لبنان، وفي الوقت نفسه أعرب عن نيته إعادة تكوين الودائع. وفي ذلك تناقض، فالتعميمان 150 و165 يقضيان بإنشاء ما يشبه "المناطق الحرة" لدى المصارف تتقبل الودائع الجديدة التي يمكن استخدامها بكل حرية، على عكس الودائع المكونة قبل 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019، تاريخ الانتفاضة الشعبية، حيث تحكمها ضوابط وقيود في السحب والدفع والتحويل، والأخطر، عدم إمكان استقبال موارد جديدة لتنفيذ هذه العمليات. أما قوله بعدم السماح بإفلاس مصارف متعسرة إلى حين إقرار قانون الإصلاح، ففيه انحراف عن السبيل القويم والقانوني في معالجة الأمور، الذي يقضي بضرورة تعيين مديرين موقتين لهذه المصارف لحماية ما تبقى من الودائع لديها، عوض تركها في عهدة من فقدوا كل حق في اتخاذ أي قرار في شأن هذه المصارف وودائعها.
أما بالنسبة إلى مصرف لبنان، فذكر سلامة أن البنك المركزي هو أول مؤسسة في الدولة لديها مفوضو مراقبة لحساباتها وعملياتها، وهذا بالطبع أمر جيد من حيث المبدأ، لكن في الواقع، تم التعاقد مع مؤسسة عملت سابقا مدققا لحسابات المصرف الأميركي المنهار "ليمان براذرز"، واتهمت بتقديم تقارير مشوهة تخفي انحرافات الأخير. من جهة أخرى، لم ينشر أي تقرير لمفوضي المراقبة المعينين عن أعمال وعمليات مصرف لبنان كما تقتضي الأصول، تزامنا مع نشر موازنة المصرف والتقرير عن عملياته. وهناك كلام بدأ يظهر عن توجه الى مخاصمة مفوضي مراقبة مصرف لبنان أمام القضاء بسبب إخفائهم انحرافات المصرف في تقاريرهم، وهذا ما ساهم في حصول الأزمة، تماما كما حصل مع "ليمان براذرز".
وفي معرض الحديث عن التواصل مع صندوق النقد الدولي، اشار سلامة الى أن مصرف لبنان نفذ المطلوب منه، متناسيا عرقلته التدقيق في عمليات المصرف وحساباته، وأن أسعار الصرف المتعددة التي تحكم التعامل حاليا، هي من صنعه، وكان تم التعهد للصندوق بتوحيدها، وهذا لم يحصل.
ان سلامه قال كلاما واقعيا ومن حقه الدفاع عن نفسه
نجيب ميقاتي، رئيس الحكومة اللبنانية
وكان الحاكم قد استهل حديثه بالكلام عن عدم صحة اتهامه باعتماد آلية "بونزي" في استجراره الودائع والموارد بالعملات الأجنبية، بدليل تمكنه من الحفاظ على السوق، علما أن الاتهام صدر عن مرجعيتين دوليتين هما الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والأخير تحدث عن اقتران آلية "بونزي" في لبنان بالغش والاحتيال، كالترويج بأن "الليرة بخير"، وبأن القطاع المصرفي متين، بهدف جذب الودائع الخارجية.
جدير بالذكر أن التعليق الأسرع على مقابلة سلامة، فيما يشبه التأييد لما قاله، أتى بعد ساعات قليلة من رئيس الحكومة نجيب ميقاتي الذي ذكر "أن سلامه قال كلاما واقعيا ومن حقه الدفاع عن نفسه"!