يحفل تاريخ القمامة والنّار في آن، بأطرف الحكايات عن مخطوطات فلسفيّة وروائية وقصصية وشعرية كان مصيرها المحزن سلة المهملات أو الرّماد. مصيرٌ قرّره أصحابها تحت طائل شعور سيئ، إمّا عدم الرضا بالمسودة والمنجز عموما، أو إثر إحباط من الردود الصادمة التي تلقّوها سواء من محرّرين أو ناشرين، أو خوفا من هاجسِ تهديد خطرٍ مُحدق.
يسرد غابرييل غارسيا ماركيز في مقدمة كتابه القصصي "اثنتا عشر قصة مهاجرة"، حكاية حماسه وهو يستعير أحد دفاتر ابنيه المدرسية بينما كان يخطط ويكتب قصصا أراد لها أن تكون لا مألوفة، على غير عادة المجاميع التي تُلملم قصصا لا مشترك بينها، قصصا تنتظم هذه المرة في كتاب لكن استنادا إلى خطة تؤالف بين النصوص في منحى تعاضدي، ما يشبه وحدة موضوعية وشكلية تتأسّس عليهما، بما يعنيه المفهوم المبتكر للكتاب القصصي الموحّد، بدل مفهوم المجموعة القصصية المشتتة، وإذ قطع أشواطا في كتابة القصة تلو الأخرى، أصابه الملل فجأة، وأدركته الخيبة من المشروع، أو فقد الحماس الأوّلي في متابعة العمل المطّرد، بل تعب من المجهود المبذول في كتابة القصة القصيرة الذي لا يقلّ زخما عن الجهد المبذول في البدء بكتابة رواية وفق توصيفه، فترك المسودة منصرفا إلى عمل مغاير لعلّه كان الانهماك في كتابة عمود صحافي مواظب... بعد فترةٍ تَبْرقُ المسودّةُ في ذهنه، وتتوقدُ مثل جمرة في ذاكرته، إذ كان متيقّنا بأن الدفتر المدرسي كان موضوعا على مكتبه في مكسيكو إلى جوار فوضى أوراقه، وها قد اختفى، فطفق مذعورا يبحث عنه دون أن يعثر عليه. أهدر في التفتيش طاقة كبرى، بل أخضع خدام البيت للتحقيق، وبعد زوبعة تحريك ذا الأثاث وذاك، اهتدى بما لا يقبل الارتياب إلى حقيقة أنه ألقى بالدفتر إلى سلة المهملات.
تحوّلت المسألة إلى قضية شرف بالنسبة إلى ماركيز، ومن أجل استعادة المخطوطة المفقودة انخرط في عمل مضن كي يتذكرها من جديد، وإعادة التذكر تطلبت مشقة تخطيط وكتابة مرة ثانية وثالثة، بل اضطر إلى أن يسافر إلى المدن والأمكنة الواردة في القصص، برشلونة وجنيف وروما وباريس، كيما يطابق بينها وبين التخييل، وقصة تلو أخرى، شرع في الحذف والتصفية لتجد القصص صيغتها النهائية في كتاب جديد أو بديل، يضم اثنتي عشرة قصة من أصل ثماني عشرة، وحال لسانه يشدو بالحكمة القائلة: "من الأفضل تقويم الكاتب الجيد بالنظر إلى ما مزّقه وليس ما نشره".
تحولت المسألة إلى قضية شرف بالنسبة إلى ماركيز، ومن أجل استعادة المخطوطة المفقودة انخرط في عمل مضن كي يتذكرها من جديد، وإعادة التذكر تطلبت مشقة تخطيط وكتابة مرة ثانية وثالثة
هذا ما حدث سابقا مع الكاتب والمؤرّخ الإسكتلندي توماس كارلايل لكن بصورة مغايرة، فما أن انتهى من مسودة كتابه عن تاريخ الثورة الفرنسية سنة 1835، حتى سلمها إلى صديقه جون ستيوارت ميل كيما يقرأها توسّما في أن يوافيه بانطباعات، غير أنّ ما حصل كان صادما وفق زعم جون ستيوارت ميل، الذي عاد إليه بعد أيام مخبرا إياه بأن خادمته أخطأت في التقدير، وحسبت مخطوطة توماس كارلايل قمامة وأحرقتها، وما كان على هذا الأخير سوى أن تكبّد شقاء إعادة استذكار الكتاب في عملية كتابة جديدة وهو ما تحقّق له بعد عناء سنة 1837.
وأمّا ميخائيل بولغاكوف فأحرق مسودة روايته الشهيرة "المعلم ومارغريتا" التي اشتغل عليها بكامل السرية اثني عشر عاما تحت نير الستالينية الكاسحة، خوفا ويأسا من نشرها، ثم أعاد كتابتها مرة ثانية وثالثة ورابعة من صلب ذاكرته، ولم يقدر لها أن تبزغ من النفق إلى نوّار النشر إلا بعد ستة وعشرين عاما بعد وفاته وفضل ذلك عائد لأرملته.
هذه ثلاثة وجوه لضياع المسودات وفق ثلاثة أسباب دامغة: الإلقاء بالمخطوطة إلى سلة المهملات تحت وطء شعور الخيبة وعدم الرضا، وهذا فعلٌ ذاتيٌّ بملء إرادة الكاتب، كما في حالة غابرييل غارسيا ماركيز.
أو ضياع المخطوطة بسبب صديق لا نعرف نواياه الحقيقية، هل حدث فقدانها بحسب زعمه من طرف ثالث خالها مجرد نفاية وأحرقها، وبذلك فالفعل غير ذاتي من الكاتب وإنما اقترفه شخص ثان أو ثالث بالأحرى، عمدا كان أو سوء تقدير كما في حالة توماس كارلايل.
ثمّ ثالثا إتلاف المخطوطة كتصرّف طارئ تحت وطأة هاجس خطر وشيك، هو خطر المناخ السياسي العاصف المحيق، وهو فعل ذاتي وموضوعي في آن، إذ أن الكاتب من أحرق المخطوطة ولكن تحت الإجبار من سطوة لحظة تاريخية ألطف ما يقال عنها إنها تراجيدية كما في حالة ميخائيل بولغاكوف.
مجملُها بعضُ أمثلةٍ سُقناها لحالاتٍ من ضمنِ ذاكرةٍ زاخمةِ المحو، عمودُ اشتراكها هو إعادةُ الكتابة بعد ضياع المخطوطة، أيًّا كان سببُ فقدانها.
طبعا عنوان المقال أعلاه مخادعٌ، إذ هو محض تساؤل ضمني:
هل إعادة كتابة مخطوطة مفقودة سواء كان مصيرها القمامة أو النار، يشبه معاندة النهر الذي سبحنا فيه مرة، بأن نعيد الكرة مرتين من خلال الاسترجاع والذاكرة؟
هل ما أعاد كتابته هؤلاءِ الكُتّاب من نصوص مهما كانت إبداعيتها عالية، وجماليتها سامقة، وأثرها ذائع الصيت، لا يمكن أن تشكل أولا وأخيرا، سوى نسخ عن أصل مفقود؟
أليس من حظ هؤلاء المبدعين أن مخطوطاتهم ضاعت فعلا، إذ فقدانها يشبه حذفا محفزًا لنشوء نصوص أبدع وأجمل مما كانت عليه الأولى، وكأن قدر الكتابة نفسه كان متواطئا في ضياعها لصالح الظفر ببديل أفضل؟
يبقى أن متعة كتابة النص البكر المفقود، هل تضاهيها متعة كتابة النص البديل له أم هذه الأخيرة تفوقها أضعافا؟
ذلك ما لن يجيب عنه إلا الملسوع بصاعقة هذه الحالة المزدوجة: فقدان المخطوطة إلى الأبد وإعادة كتابتها مرّة أخرى.