إن الدول الكبرى لا تُبنى فجأة، وإنما تحتاج إلى لبناتٍ غائصة في باطن أرضها لتواصل الصعود إلى ظاهرها. ولعل ما مرَّتْ به المملكة العربية السعودية منذ الدفقة النفطية الأولى من رحِم أرضها ذات المساحة المليونية، هي التي وضعت العقل القيادي والإداري والسياسي والثقافي فوق خريطة الغد الذي لم يبق من شاهديه وراسميه اليوم إلَّا القلائل، أولئك الذين بنتْ أيديهم أسس المستقبل لوطنهم قبل أن يغادروه.
لا غَرْوَ في أن هذا الحدث كان ولا يزال حديث العواصم. ولكي يجعلوا له وتدا تاريخيّا في كتب التاريخ أطلقوا عليه مصطلح "الطفرة"، وربطوه بالعام الذي شهد أهم مصدرٍ للدخل القومي والوطني بالسعودية، وهو عام النفط السعودي 1969 الذي بدوره لم يشهد اختلافا في مصادر المعيشة وحدها، بل شمل تغييرات ديموغرافية، وتنمية اجتماعية، وتحوّلات سيكولوجية لدى الإنسان السعودي والخليجي.
طوال تلك العقود كانت مخططات التغيير لدى المجتمع الخليجي معقودة باستمرارية وتصاعدية حتى في ظل الاحتراب السياسي بين دول المراكز والأطراف. إذ أنّ ثرواتها لم تتوقف على مجتمعاتها فحسب، وإنما دخلت في طور الشراكة العربية. ولو أمكنني اليوم تسمية تلك المرحلة التشاركية لأطلقت عليها "التنوير في مقابل"، تلك التي شهدت المملكة خلالها شدَّ الرحال إليها، استجابة لإعلانٍ محوره قيام نهضة إنسانية وفكرية هدفها الأسمى النهوض بالمملكة، وتحويل صحرائها إلى جنتَّين من وعي وبناء.
وإذا ما أردنا وصل تلك الطفرة بما نعيشه اليوم، أمكننا القول إنها نجحت بامتياز في إضاءة الإنسان السعودي الأول ليتحول بذلك إلى مصنع تعليمي وتنويري وثقافي ذاتي يُنتج محليّا كل ما أراده في شتى العلوم والمعارف في أزمنة قصيرة أبهرت العالم. ولم تنتج تلك الحقبة ذلك المصنع فحسب، بل أسست لمفاهيم تربوية وحوّلت فردانية الفتوى إلى لجنة دينية تحقق العدالة الاجتماعية والإنسانية، مستندة إلى كل ما جاء في القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية المطهرة. شهد هذا المحور، كذلك، استقطاب نُخَبٍ فكرية شملت مفكرين وعلماء من الدول الإسلامية والعربية ساهمت في إنجاح تلك المرحلة التنويرية الهادفة إلى ترسيخ قِيَمٍ كثيرة ومهمّة سهَّلت في ما بعد على المجتمع السعودي بجميع أطيافه التواصل المعرفي والثقافي ومشاركة العالم الخارجي بمدخراته ومعارفه وتاريخه العريق. فغدت المملكة منطلقا لنهضة فكرية وصناعية يتحدث عنها عالم اليوم، الذي يرفع القبعة لكل قوي قادر على القفز إلى الأمام بخطى وثَّابة وعقول نيرة.
ما إن توافرت جميع تلك العوامل حتى تكامل المجتمع السعودي مع جيرانه، فازداد وصاله، وتوثقت أواصر علاقاتهم بازدياد نسب المصاهرة، والانفتاح الحدودي، ويسر التنقل. وهنا يمكن تأكيد أن ذلك الذوبان هو الذي ساهم في ظهور "توحيد ثقافي خليجي" مكتمل الفصول استطاع بدوره المساهمة في مضاعفة العلاقات إلى أن صيّر المجتمع الخليجي عصبة أممٍ تنطق بلهجات موحَّدة، وعادات وتقاليد متشابهة، وتوأمة ثقافية فريدة. هذا التوحيد الذي تحوَّل مع تقادم الزمن إلى وحدة قومية مكّنها من تأسيس إحدى أهم المظلات السياسية السيادية في العالم هي "مجلس التعاون الخليجي" الذي بدوره شرّع أسس الحفاظ على هذا التوحيد الخليجي، فقدَّم البرامج والوسائل المتطورة لتحفيز المجتمع على التعايش "بجسدٍ واحدٍ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".
إذا ما أردنا وصل تلك الطفرة بما نعيشه اليوم، أمكننا القول إنها نجحت بامتياز في إضاءة الإنسان السعودي الأول ليتحول بذلك إلى مصنع تعليمي وتنويري وثقافي ذاتي
ولعل ما حدث لاحقا من صراعات وأزمات سعت الى تفكيك هذا الجسد وتشريده وتجويعه وبثّ روح الفرقة في أطنابه، والسعي بالاحتراب في ما بينه، جعلت البنيان الثقافي المعتمد على فروعه: الديني، والثقافي، والاجتماعي، يزداد تماسكه داخليّا، وانتشاره خارجيّا. ومع تقادم العقود انغرست مشاعر المواطنة في مسامَّات وأوردة المجتمع الخليجي فوحدته أكثر، وشابكت أياديه وصنعت له وحدة سياسية في مواجهة الخصوم.
من المتعارف عليه أنه لا يمكن لأيَة أزمة أن تعبر دون أن تترك آثارها ومؤثراتها الجانبية لعقود لاحقة، وبين انقشاعها وزوالها لا بُدّ من أن تتخلّق أزمات جديدة في رحم مجتمع آلى على نفسه أن يكون لحمته وسداه: التلاحم، والتعاضد، والتآزر، كما لو أن الهدف الأسمى من وراء تلك الأزمات، في كل مرة، هو فحص المجتمع الخليجي سياسيّا وثقافيّا واجتماعيّا، وقياس مدى جديّتِهِ في التغيير السياسي بدعوى الإصلاح المُبطن بالإفساد. وقد سعت مطابخ سياسية عالمية لغرس أيديولوجيات عديدة هدفها صناعة التحزّبات الداخلية لتغدو لاحقا طوع بنانها في تغيير المعارف والثقافات الراسخة في محاولات حثيثة لتفتيتها. ولما يئِسَتْ تلك المطابخ من اختراق البنى الفكرية والثقافة الجَمْعيّة الناضجة طوال العقود الماضية، سعت بكل ما أوتيتْ من خبرات إلى إنتاج برامج عالمية استقطبت خلالها المثقفين دينيّا وفكريّا تحت مسمَّيات وجمعيَّات إنسانية واجتماعية وثقافية –اكتشفنا اخيرا أنها لا إنسانية، ولا اجتماعية، بل ومنبتَّة الصلة عن الثقافة- وإنما كان هدفها تمرير بعض المفاهيم المستقبلية، وإدراج تغيير لعددٍ من المفاهيم التخريبية في رؤى جماعية تحدث زلزلات وحلحلة في البنية التحتية للمجتمعات وصَدْع في اللبنات والأساسات، بالإضافة إلى إخلالات تشغل المعنيّ بالبناء والإعمار والتنوير عن خططه المستقبلية، أو تؤخّره وتغلّ يديه. لكن كل تلك المحاولات باءت بالفشل أمام الوعي الثقافي الخليجي الجَمْعِيّ الذي وحّد الخليجيين فطريّا في مقت الخراب، ونبذ الخلاف.
لم يُترك الخليج العربي طوال العقود الماضية ليتنفس مطلقا. ولو أنه تُرك لصار اليوم أعظم المجتمعات الكونية في شتى المجالات؛ لمقدرته ورغبة شعوبه التي استطاعت الاكتفاء ذاتيّا في جميع مناحي الحياة بحقبة زمنيةٍ وجيزة. وهذا في رأيي ما ستتوصل إليه الدراسات والتحليلات في الأخير؛ ذلك أنها لن تخلص إلَّا إلى أن الخليج العربي بقعة موحّدة فطريا وغريزيا وثقافيا تستعصي على التحلحل أو التحلُّل، وكل ما ينبت في أرضٍ لا بُدَّ من أن تمتدَّ جذوره الى الأرض الخليجية المجاورة.
قد يكون المواطن الخليجي -ومنه السعودي- قد تأخر قليلا أو كثيرا عن التحولات التي نشاهدها اليوم في شتى فروع الحياة، ومنافعها، أو المشاريع الثقافية العملاقة، ولكن ذلك لم يعد يهم، وإنما المهم هو أن مواطني تلك البقعة الشاسعة قد ربحوا أكثر ممَّا خسروا؛ ذلك أن جميع الفتوحات الفكرية والبعثات الديبلوماسية والتعليمية والثقافية السابقة أكدت أخيرا للعالم بكامله تمام النضج لثمارها؛ وبالتحديد حين احتاجت السعودية والخليج إلى حقبة البناء، وإعادة الاستقطاب الفكري والثقافي استعانت هذه المرة بالمدد والعون من الداخل ليكمل البناء بيد الأبناء.
كفى بالروَّاد الثقافيين فخرا أنهم ألهمونا، وجعلونا ذوي مرجعية أدبية وفنية وإبداعية ونخبوية وفكرية... ولكي نكافئهم علينا الاستمرار في توليد الأفكار عبر مختبرات متخصصة في هذه المجالات
إن جميع هذه الصور البانورامية التاريخية للطفرات والتحولات الثقافية في المملكة بشكل خاص والخليج بشكل عام تعيدنا إلى أرضية المشاهد الثقافية الخليجية الأكثر صلابة –اليوم- باعتبارها مراكز استخراج وتنقيب ثقافي عصري حديث أكثر تحضرا، وتماسكا، وانفتاحا على العالم ممَّا مضى، ولم تعد أطرافا وإنما صارت مراكزَ لصنع القرار، والتأثير، والمثاقفة. ولعلَّ ما حققته من منجزات حضرية وحضارية في عقودها الماضية قد جعل أعين العالم اليوم بكامله توجه أنظارها إلى البقعة نفسها التي لم يكن يُعمل لها أي اعتبارٍ قبل حينٍ من الدهر. وهذا يجبرنا جميعا على ألَّا ننحاز إلى التجارب الثقافية التي كررت نفسها، لتجعلنا رقما صعبا في صناعة الثقافة وتصديرها بعد عقودٍ طويلةٍ من الاستيراد والاستنزاف.
إننا اليوم ذوو صفة اعتبارية عالمية تجعلنا نجنح إلى صنع ما تأخر أجدادنا عن صنعه، وكفى بالروَّاد الثقافيين فخرا أنهم ألهمونا، وجعلونا ذوي مرجعية أدبية وفنية وإبداعية ونخبوية وفكرية لا تقل أهمية عن أي بلدٍ آخرٍ في العالم. ولكي نكافئهم علينا الاستمرار في توليد الأفكار عبر مختبرات متخصصة في هذه المجالات؛ ليستمر الآخر في اتباعنا، والتأثر بنا مستمدّين شعورنا التأثيري هذا من وعينا السعودي الجمعي القادر على بناء التحولات الناجحة والطامحة والمؤثرة في شتى مجالاتها، وفق الأسس والجودة العالمية الحديثة التي تشكلت عليها أعمدة رؤية التطور الثقافي المتجدد والشمولي لجميع مناشط الحياة السعودية.
يمكن اليوم التحدث عن بعض مساراتنا الثقافية المتطورة السائرة نحو العالمية من خلال حالتين وقفت عليهما، واستخلصت شهاداتها الميدانية بنفسي:
الأولى: أثناء معرض الرياض الدولي للكتاب 2022، حيث استطاع القائمون عليه إنشاء أكبر معرض كتاب في تاريخ المملكة في حضور أكبر عددٍ من الزوار، وازدحامه بضيوف من أهم الأسماء العربية والدولية من أرباب الفكر والثقافة والفنون في تشكّل لم يحدث مثله في البلاد، وتصدير ثقافي تعددت لغاته، وتنوعت مؤثراته، وزادت وجهاته.
الثانية: صناعة أهم المهرجانات، والكرنفالات الثقافية، والاجتماعية، والترفيهية الحديثة بجودة عالمية، وبأيادٍ محليّة، ومنتجات وطنية. ولعلّ ما تحدثه احتفالات "يوم التأسيس" و"اليوم الوطني" و"أيام الجنادرية" و"الأيام الثقافية السعودية"، و"هيئة الترفيه"، وغيرها، تعد أدلة دامغة على أن الإنتاج الثقافي الوطني قادر على المنافسة.
وعلى الرغم من وجود توحيد ثقافي يربط دول الخليج الواقعة بكاملها في منطقة قابلة للاضطراب في أية لحظة، إلَّا أنها استمرت في إعادة تمَوْضعها أثناء كل الاضطرابات ومن بعدها دون أن تتضرر، أو تتعطل عجلة تنميتها عن الدوران. ولعل ما أُنجز، أو ما هو في طَوْر الإنجاز حتى الآن لدليل دامغ على أن المخططات الثقافية والتثقيفية السعودية عينها على الإنسان كثروة، والمكان كقِبلة، والحضارة كوجهة، والتاريخ كأقدم كتابٍ على ظهر الكون، وأنه مصدرها المهم والخام القادر على ترسيخ الكيان، وعمارة الأرض والإنسان.