بيروت: يهيمن على اللبنانيين يأس عام تشوبه حوادث مأسوية، موضعية، متنقّلة ومفاجئة، بعد ما أصاب لبنان في السنوات الثلاث أو الأربع الأخيرة، من إفلاس خزينته المالية العامة، وانهيار قطاعه المصرفي وقيمة عملته النقدية وحياته الاقتصادية، وخراب مؤسسات الدولة والحكم فيه، وتصدّع مجتمعه وغرقه في صمت وضياع: جرائم قتل أهلي وعائلي وزوجي مروّع. انتحارات لا يُكشف إلا عن القليل منها بين حين وآخر. هذه وسواها من أمثالها لا تكاد تترك سوى أصداء ضئيلة، مختنقة وعابرة، كأنها صارت حوادث من طبيعة الحياة والموت العاديين في بلاد يائسة، وغارقة في الفوضى والإهمال.
لكن على الرغم من هذا كله، يبدو لبنان اليوم متجها بفئاته وجماعاته كلها إلى تعوّد وتأقلم قدريين على ما أصابه من تصدّعات، كأنها ظاهرة دورية عادية ومتأصّلة في تاريخه الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، ولا أمل في خروجه أو شفائه منها.
وما دامت حال اللبنانيين على هذه الصورة، فلا مهرب لهم من الاجتهاد الصامت في تصريف شؤون حياتهم وخدماتهم وحاجاتهم العامة، بصفتها شؤونا خاصة تعني كلا منهم بمفرده من دون سواه. وهذا معناه أنهم تعوّدوا على العيش بلا دولة ولا مؤسسات عامة، إلا إذا شاءت بناءها وإنشاءها مصادفات لا يد لهم فيها ويستجيبون لها صاغرين، بلا إرادة منهم ولا قرار. ويعني أيضا أنهم ليسوا مجتمعا، بل جماعات عصبية تستقوي وتتسلّط إحداها على الأخريات، إلى أن تفقد الجماعة المتسلطة وعصبيّتها المعين والمدد الخارجين لقوّتها، فتذوي وتتأكل من داخلها، ويصيبها الاهتراء والتحلّل.
ربما هناك ظاهرة واحدة على الأقل سلِمت مما أصاب لبنان من اهتراء وتحلّل. وهي ظاهرة حافظت بقوة مستميتة على ثباتها ومتانتها واستمرارها. والأرجح أنها ازدادت وضوحا وصارت فاقعة في مشهديتها، بسبب ذينك الاهتراء والتحلّل العامين في مشاهد الحياة اليومية اللبنانية العامة.
الظاهرة هذه هي علاقة فئات لبنانية واسعة بالسيارات، وهي علاقة ترقى إلى غرام تلك الفئات المشغوف بالسيارات الجديدة والفخمة والفلكية الأسعار، والباهظة التكلفة المادية في مستلزماتها وصيانتها والحفاظ على بريقها أثناء سيرها الاستعراضي في شوارع متأكلة مليئة بالحفر.
والأرجح أن المغرمين حتى التولّه بما يُفترض أنها وسيلة نقل وتصريف شؤون يومية، يرددون ما قاله الشاعر أبو نؤاس، أو الحسن بن هانئ، في الخمرة: "دعْ عنك لومي فإن اللوم إغراءُ/ وداوني بالتي كانت هي الداءُ".
وبعد ما حصل في لبنان السنوات الثلاث الماضية، ليس ضربا من المبالغة والتجاوز والمجاز أن يصف المراقب علاقة اللبنانيين، عامة، بالسيارات، بأنها شغف ووله. فأرتال، بل أسطول السيارات الفخمة والجديدة والباهظة الأسعار، لم تتناقص أعدادها في شوارع بيروت ومناطق لبنانية كثيرة. بل هي على العكس تتزايد وتتضاعف عددا وجِدّة وفخامة. كأنما أصحاب هذه السيارات يقولون: "هيهات منا الذّلة". وهذه عبارة أطلقها حزب "لبناني" - إقليمي، وجعلها شعارا لسيطرته عليهم.