المؤتمرات العلمية والتواصل الثقافي

المؤتمرات العلمية والتواصل الثقافي

تشكّل المؤتمرات الدولية واحدة من أبرز سمات الحياة العلمية المعرفية والاقتصادية. فمنذ ظهورها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بحسب تقرير إحصاءات الاجتماعات الدولية الصادر هذا العام 2023 عن "الاتحاد الدولي للجمعيات" (UIA) وهو معهد أبحاث مقره بروكسل، بلغ عدد المؤتمرات على مستوى العالم 505,000 مؤتمر عقد أو جار التخطيط لتنظيمه ما بين عام 1851 وعام 2036، بمعدّل 3000 منها مؤتمرات مستقبلية، مما يعني أنه لا تزال هناك أسباب وجيهة لهذا الارتفاع، تتمثّل في العوائد التي يمكن أن تؤديها على الممارسات العلمية والاقتصادية، إلا أننا قليلا ما نتوقف عند مفهوم الرحلات العلمية ودوافعها وطبيعتها، خاصة في المجتمعات العربية.

كان شدّ الرحال للتزوّد بالعلم والمعرفة من أهم سمات التطور الحضاري والتفوّق العلمي في التاريخ العربي والإسلامي وكان لها دور عظيم في تمتين العلاقات الثقافية بين الدول وتنشيط الحرکة الثقافية والفکرية، وقد شجّع عليها العديد من المفكرين، فهذا ابن خلدون يقول: "رغب الرحالة في ارتياد المجهول وتقصي الحقائق وطلب العلم والمعرفة من مواطنها الأصلية...”. كما ذهب إلى شرح بعض تقنيات أخذ العلم في الرحلة، مشيرا إلى ضرورة التحصيل بالمباشرة والمناظرة المباشرتين باعتبارهما أشدّ رسوخا واستحكاما، فيقول: "فلقاء أهل العلوم وتعدد المشايخ يفيده تميز الاصطلاحات بما يراه من اختلاف الطرق فيها من المعلمين، ويصحح معارفه ويميزها عن سواها". فثمة دور لا يستهان به للمؤتمرات في إثراء المجال العلمي من خلال ما ينتج عنها من حوارات فكرية ومناظرات علمية هامة بين العلماء المتخصصين في مختلف العلوم.

إذن، كيف حال الرحلات العلمية اليوم، وما دورها في مستقبل العلوم الإنسانية؟

شاركت قبل فترة قصيرة في المؤتمر الدولي الذي تنظمه "جمعية علم النفس السيبراني" (iACToR) في جامعة السوربون العريقة، بدعم من جامعة الملك سعود ممثلة في عمادة البحث العلمي، إيمانا منها أهمية هذه المشاركات. وأثناء تواجدي في المؤتمر أخبرني أحد الباحثين بمشاركته في مشروع بحثي موّلته "مؤسسة العلوم الإنسانية للأبحاث الأوروبية"، وهو واحد من مشاريع بحثية تدعمها تلك المؤسسة. ذكر أن الفريق الأوروبي وهو أحد أعضائه يبحث حاليا في تاريخ "المؤتمرات العلمية" كظاهرة يجب فهمها ومعرفة ما يحدث فيها؟ كيف يتبادل الباحثون المعرفة وكيف تتشكّل خبراتهم؟ ما أشكال التواصل الاجتماعي التي تتطور من خلال هذه الاجتماعات؟ كيف تجسد المؤتمرات العلمية التسلسلات الهرمية الاجتماعية والعلاقات الدولية؟ ما المخرجات التي تفيد بها صناع القرار بشأن ما يطرح خلالها من موضوعات؟ الجميل في المشروع أنه التفت إلى دراسة أثر هذه المؤتمرات والملتقيات العلمية بوصفها "فضاءات عامة" وتعامل معها على هذا الأساس خلال ثلاث سنوات من البحث بدأت في عام 2019. هذه المحادثة استفزت تأملاتي في دوافعي الشخصية وغيري من الباحثين في مجال العلوم الإنسانية على وجه التحديد من حضور مثل هذه المحافل الدولية العلمية وكيف نستطيع استثمار مخرجاتها.

كان شدّ الرحال للتزوّد بالعلم والمعرفة من أهم سمات التطور الحضاري والتفوّق العلمي في التاريخ العربي والإسلامي وكان لها دور عظيم في تمتين العلاقات الثقافية بين الدول وتنشيط الحرکة الثقافية والفکرية



استحضرت المؤتمرات العلمية التي شاركت فيها والتي تتجاوز العشرين مؤتمرا دوليا منذ بدأت دراستي العليا عام 2013، وكان يستوقفني في بداية تشكيل مساري البحثي والعلمي الطقوس التي تمارس في هذه المؤتمرات، ففي اليابان -على سبيل المثال لا الحصر- حين حضرت مؤتمرا عام 2016 افتتح المنظمون المؤتمر بالتباهي بثقافتهم بقرع الطبول وأداء الرقصات اليابانية والاقتصار على تقديم الوجبات اليابانية بطريقة متميزة احتراما لثقافة بلدهم وتعريفا بها وبتاريخها، والترحيب بالضيوف بانحناءة يابانية تعكس الاحترام باعتباره سمة ثقافية. فبخلاف ما تقدمه المؤتمرات العلمية من مخرجات علمية لأحدث البحوث فإنها تعد فرصة لتوطيد العلاقات الدولية، والتعريف "الناعم" بمقدرات البلد المضيف وعرض صورته الثقافية التي تميزه عن غيره. كما أنها تسمح بتجمع ثقافي واسع الطيف لا يسمح فقط بالتبادل المعرفي إنما يتجاوزه للتبادل الثقافي والحضاري.

من زاوية أخرى، فهناك من يقترح الاستعاضة عن اللقاءات العلمية المباشرة بعقد المؤتمرات عبر الإنترنت، في مارس/ آذار 2021 أي خلال جائحة كوفيد19، نشرت مجلة Nature human behaviour بحثا حول جدوى لمؤتمرات باعتبارها جزءا محوريا من المجتمعات العلمية، لكنها أشارت إلى التكلفة المرتفعة لها، وما قد تتسبب به من ضرر بيئي وتلوث مناخي نظرا إلى ما يرافقها من رحلات جوية وعمليات لوجستية، واقترحت أن المؤتمرات "الافتراضية" تسهل زيادة الوصول إلى المعرفة في جميع أنحاء العالم وتوفر التكاليف. وفي الطرف الثالث، والذي لوحظ اعتماده في كثير من المؤسسات العلمية، نجد المؤتمرات الهجينة أي تلك التي تجمع بين الوسيلتين المباشرة والافتراضية.

وعلى الرغم من ميلي إلى مشاركة الحضورية والتي توفر فرص الاتصال والتواصل الثقافي الفعال بين باحثين من خلفيات اجتماعية واقتصادية متنوعة، فالمهم هو ما تتمخّض عنه تلك المؤتمرات، سواء أكانت مباشرة أم افتراضية. فمن المهم نشر الوعي بأهمية المشاركة في تلك المؤتمرات العلمية، خصوصا بالنسبة إلى المرأة، لمشاركة نتائج بحوثها ومناقشتها، وتبادل الأفكار والرؤى، والتواصل من أجل التعاون والتطوير الوظيفي. فنحن بحاجة إلى تحسين المؤتمرات العلمية ورفع مستوى الوعي بأهميتها وتطويرها لتكون أكثر كفاءة واستدامة وإنصافا جندريا مما هي عليه حاليا، بهدف تحقيق مستوى أعلى من الاندماج والتنوع سواء على مستوى الجندر أو الثقافة أو المستوى الاقتصادي.

font change
مقالات ذات صلة