"تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن"... لعل هذا المثل ينطبق اليوم على السياسات التي انتهجها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لا سيما بغزوه أوكرانيا قبل عام ونصف العام. فبدلا من إبعاد حلف الناتو الذي ظنّ كثر أنه بات من الماضي، عن بلاده، إذ بهذا الحلف ينهض من جديد، أقوى من أي فترة مضت ويقف على امتداد الحدود الروسية تقريبا.
أيضا، فإن بوتين بغزوه أوكرانيا، وبدل أن يوطّد علاقة بلاده بأوروبا، فكّك تلك العلاقة، إذ تحولت من الصداقة والتعاون إلى النفور والعداء، بل إن ذلك عزّز ارتباط أوروبا بالولايات المتحدة. وبدل أن يضعف بحربه أوكرانيا، إذ بهذه الدولة الضعيفة والصغيرة (روسيا أكبر منها بـ30 مرة) تصبح أقوى من أي وقت مضى. وبدل أن يؤكد هيبة روسيا عسكريا، إذ بهذه الهيبة تتلاشى بعجزها عن كسر الجيش الأوكراني الذي انتقل من الدفاع إلى الهجوم.
بيد أن التحوّل الأهم الناجم عن غزو روسيا لأوكرانيا تمثل في تحول أوروبا نحو العسكرة، بإعادة هيكلة جيوشها وتحديث أسلحتها ورصد موازنات كبيرة للدفاع والأمن وتعميق اعتمادها على حلف الناتو بعد أن كانت تتمنّع عن كل ذلك لشعورها بالأمن والسلام ولتفضيلها التركيز على التطور الاقتصادي والعلمي والتكنولوجي، ورفاهية مواطنيها.
واضح أن المعضلة في انتهاج دولة ما سياسة القوة والغزو والغلبة في العلاقات الدولية، لحيازة مكانة متميزة- وهو ما تحاوله روسيا بوتين، باعتمادها وسائل العالم القديم، أي المساحة وعدد السكان والثروات الطبيعية- في العالم الحديث، باتت فيه مكانة الدولة تتحدد بمساهماتها في مجالات العلوم والتكنولوجيا، وبقدرتها على إدارة واستثمار مواردها البشرية والطبيعية بطريقة ناجعة، وأيضا بالوسائل التي تنتجها لفائدة المجتمع العالمي، فكل تلك الأمور باتت بمثابة المحرك لتطور اقتصاد الدول، وتمكين دولة ما على الصعيد العالمي.
مثلا، ثمة دول صغيرة مثل سنغافورة وتايوان وهولندا وكوريا الجنوبية، تصدر كل واحدة حوالي 900 مليار سنويا (كسلع وخدمات)، وتستحوذ على تفوق كبير في مجال التكنولوجيا، وهذا ينطبق على دول أكبر حجما كألمانيا واليابان وبريطانيا، التي تحتل كل واحدة منها القوة الاقتصادية التالية للولايات المتحدة والصين، علما أن روسيا (17 مليون كيلومتر مربع) أكبر من كل دولة منهم بستين ضعفا، في حين أن كل واحدة من تلك الدول تمتلك قوة اقتصادية ضعف قوة روسيا، والغريب أن صانع القرار الروسي لا يدرك ذلك في رؤيته لذاته ومكانته، سيما مع استحواذ روسيا على ثروات باطنية هائلة بالقياس لكل تلك الدول، إذ إن قوتها الاقتصادية حوالي تريليوني دولار سنويا، توازي القوة الاقتصادية لدولة مثل إيطاليا أو كوريا الجنوبية.
وتبدو تلك المعضلة مضاعفة مع العلم أن روسيا (عهد الاتحاد السوفياتي) كانت استدرجت للدخول في سباق تسلح على الصعيد العالمي، في الثمانينيات، فيما عرف بـ"حرب النجوم" (عهد الرئيس الأميركي رونالد ريغان)، مما استنزف قدراتها، بحيث انهار الاتحاد السوفياتي (الذي ورثته روسيا)، أو تفكك، مطلع التسعينات، من تلقاء ذاته، من دون حرب، ومن دون معارضة داخلية، لخسارته المباراة الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية مع الغرب.