لم يكن يوسف شاهين يحب الآراء التي تتحدث عن فنانين ومخرجين لا يتكرّرون أو لا يعوّضون، وكان عادة ما يردّد أن الآن أفضل من الماضي، لكنّنا إذ نستعيد ذكراه بعد خمسة وعشرين عاما من وفاته فإننا نجد اسمه قد ظل لأكثر من نصف قرن يمثل أحد أبرز صانعي تحولات السينما العربية، في كل مناحيها الواقعية والتجريبية.
فشاهين أو "جو" كما يحب أصدقاؤه أن ينادوه، لفت أنظار النقّاد والمشاهدين بأفلامه الأولى التي تناولت الحياة الاجتماعية في مصر مثل "صراع في الوادي" (1954)، و"صراع في الميناء" (1956) إلاّ أن بصمته الأولى في عالم السينما بدأت مع فيلم "باب الحديد" (1958) والذي مثّل فيه أيضا إلى جانب فريد شوقي وهند رستم وحسن البارودي.
هذا الفيلم الذي جاء بعد عشرة أفلام بدأها بـ "ابن النيل" (1950) تنفتح كاميرته على محطّة سكّة حديد، حيث تدور الأحداث، فنرى من خلالها النّاس العابرين وأولئك الذين يتوهون أو يعملون فيها، ومنهم قناوي (يوسف شاهين) المهووس بهنومة (هند رستم) والتي تتعلّق بشخص آخر هو أبو سريع (فريد شوقي)، ووسط صراعات العمّال وربّ عملهم والعلاقات المتوترة بين الشخصيات بدا قناوي مهمشا وضائعا في عالم من الزحام والاكتظاظ، لا أحد ينظر إليه أو يتلمس جراحاته المفعمة والمتطلّعة للحب، باستثناء رعاية وشفقة عم مدبولي (حسن البارودي) الذي لا يمضي معه إلى النهاية حيث يختل توازنه ويسقط.
على منوال هذا الفيلم أخرج شاهين بعض أفلامه الواقعية مثل "الأرض" (1969)، المأخوذ عن رواية لعبدالرحمن الشرقاوي بالاسم نفسه، إلاّ أن هناك ثلاث مناحي ظلّت واضحة في مسيرته السينمائية، يتمثل الأول بمنحى كتابة وإخراج فيلم السيرة الذاتية، من خلال أربعة أفلام: "اسكندرية ليه؟" (1978)، "حدوته مصرية" (1982) و"اسكندرية كمان وكمان" (1990)، مع استعادة متأخرة لهذه السيرة في فيلم "إسكندرية- نيويورك" (2004).
ظل شاهين ملتزما بالمعنى الإنساني العام ولم يبتعد عن مشاغل الناس اليومية سواء في بحثها عن متطلبات الحياة اليومية من لقمة الخبز والإشباع الجنسي أو في بحثها عن كينونتها الوجودية
وفي هذا المنحى بدأت النزعة التجريبية في أعمال شاهين تبرز بشكل واضح، حيث يتقاطع السرد الذاتي مع الاجتماعي في تداخلات وحوارات تتنقل عبر الأزمنة.
المنحى الثاني الذي برز في أعمال شاهين تمثل في الاهتمام بالجانب التاريخي سواء عبر شخصياته الأسطورية "المهاجر" (1994)، أو التاريخية "جميلة" (1958)، "الناصر صلاح الدين" (1963)، "وداعا بونابرت" (1985)، و"المصير" (1997).
وهناك منحى سياسي ثالث يمكن مشاهدته في معظم أفلام شاهين إلاّ أنه بدا واضحا مع "العصفور" (1972)، و"عودة الابن الضال" (1976)، اللذين جاءا عقب حرب 1967 وفي محورها، وصولا إلى "الآخر" (1999) و "هي فوضى" (2007) في انشغالهما بقضايا الإنسان الممزق بين سلطات الفساد وقهر الواقع والتطرف الديني.
في معظم هذه التوجهات ظل التجريب عماد كل فيلم يصدر لشاهين، وهو الذي عاصر زمن الأبيض والأسود والتقنيات التركيبية البسيطة للصورة والصوت وشهد مختلف التجارب الفنية منذ أن درس فنون المسرح في أميركا 1946- 1948.
كما أن شاهين ظل ملتزما بالمعنى الإنساني العام ولم يبتعد عن مشاغل الناس اليومية سواء في بحثها عن متطلبات الحياة اليومية من لقمة الخبز والإشباع الجنسي أو في بحثها عن كينونتها الوجودية كما عمل حين استعاد ابن رشد (1126- 1198) في "المصير".
أتّهم شاهين بالغموض من بعض النقاد وتعرّض أحيانا إلى حملات ظنّها مخططة ضده من قبل مؤسسات صحافية ومالية ورسمية، فيما ظن البعض أن المخرج الذي نشأ في الإسكندرية منفتحا على آفاق ثقافية عدة كان له لسان طويل وحاد في تعامله مع الآخرين، ومن ذلك وصفه للنقّاد بأنّهم حمير، وهو ما أنكره وقال إنّه وصف واحدا منهم فقط هكذا، وإثر ذلك وحين صُدر فيلمه "سكوت حنصوِّر" (2001)، شنّت عليه حملة صحافية قلّلت من أهمية الفيلم، فعنونت مقالاتها: "سكوت حنخرِّف" و"سكوت حنهرّج".
وكان شاهين قد ردّ على ناقد قال إنّه شاهد الفيلم مرّتين ولم يفهمه بالقول: شاهده اثنتي عشرة مرة؛ لكنّه عاد وقال له: حتى لو عملت ذلك فلن تفهمه.
لم تكن لشاهين علاقة طيّبة مع الرقابة، فأيّام جمال عبد الناصر قال له وكيل لوزارة الإعلام "هو أنت عايز تفكّر لوحدك؟" وكأنّه كما قال شاهين يريد أن يقاسمه تفكيره، كما أن فيلمه "المهاجر" سرعان ما منع بعد عرضه لاتكائه على قصّة دينية.
قدّم يوسف شاهين الكثير من نجوم السينما أمثال عمر الشريف وفاتن حمامة وأحمد رمزي كما عمل معه شكري سرحان ونور الشريف ويسرا وفريد شوقي ونادية لطفي وفيروز وداليدا ومحمد منير وسعاد حسني ومحسنة توفيق ومحسن محيي الدين وغيرهم.
بقي شاهين في حياته، كما في أفلامه، دائم التوتر والقلق والسؤال، وعُرف بمشاغله الفكرية الكونية عن مصير الإنسان وأهمية وجود الفن
ويوسف جبرائيل شاهين (25 يناير 1926- 27 يوليو 2008) المولود في الإسكندرية من أب لبناني كاثوليكي وأم يونانية، في مناخ اجتماعي كوزموبولاتي، أخرج قرابة أربعين فيلما وكرّم بجائزة اليوبيل الذهبي لمهرجان كان عن مجموع أعماله عام 1997، كما حصل على جائزة الدب الفضي من مهرجان برلين السينمائي عن فيلمه "اسكندريه ليه؟" عام 1978، إضافة إلى وسام الآداب والفنون من فرنسا. وصدرت عنه الكثير من الكتب، أهمها كتاب "يوسف شاهين حياة للسينما" لوليد شميط وكتاب "يوسف شاهين نظرة الطفل وقبضة المتمرد" لإبراهيم العريس، وهناك كتب أخرى لمحمد الصناديلي ومصطفى محرم ومحمد الصاوي وسمير فريد ورانيا يحي ومالك خوري إلى جانب كتب أخرى بلغات مختلفة.
بقي شاهين في حياته، كما في أفلامه، دائم التوتر والقلق والسؤال، وعُرف بمشاغله الفكرية الكونية عن مصير الإنسان وأهمية وجود الفن لتصبح معه الحياة ممكنة، أو لقطة في مشهد طويل هو عمر السينما الحلم.