15 عاما على رحيله: يوسف شاهين ورحلة البحث عن الحريةhttps://www.majalla.com/node/296331/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/15-%D8%B9%D8%A7%D9%85%D8%A7-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%B1%D8%AD%D9%8A%D9%84%D9%87-%D9%8A%D9%88%D8%B3%D9%81-%D8%B4%D8%A7%D9%87%D9%8A%D9%86-%D9%88%D8%B1%D8%AD%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%AD%D8%AB-%D8%B9%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D9%8A%D8%A9
اليوم 27 يوليو/ تموز تصادف ذكرى رحيل المخرج المصري الشهير يوسف شاهين قبل 15 عاما. بين الرحيل عن عالمنا، والحضور السينمائي المُمتدّ، تبقى قصة شاهين مفتوحة على المزيد من التأويلات والاكتشافات. ولعلنا اليوم تحديدا، في ظلّ المُتغيرات الكثيرة على مستوى الحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية في مصر والعالم العربي، أو في العالم (ذلك الذي طالما أحب شاهين مخاطبته) لعلنا أحوج ما نكون إلى الإصغاء إلى ما يُمكن أن يقوله اليوم هذا المبدع، عبر أفلامه، لعلها تساعدنا على فهم عصرنا بصورة أفضل.
ماذا كان يُمكن أن يفعل شاهين، لو ظل حيا بيننا إلى اليوم؟ كيف كان سيُعبِّر عن المشهد؟ وكيف كان سيراه؟ أي لغة تلك التي كان ليتحدث بها أبطاله؟ كيف كان ليصوغ موقفه من السلطة؟ لا السلطة السياسية فحسب التي ظلّ موقفه منها مُتغيرا طوال مسيرته - هو الذي حقق "صلاح الدين" تمجيدا للحقبة الناصرية مثلما يُقال، وقد يكون استغل هذه الرغبة في تمجيد الذات عند عبد الناصر لتحقيق فيلمه الشخصي عن صلاح الدين - لكنه أيضا وكما تكشف أعوامه الأخيرة، وكذلك أفلامه، موقفه الصريح من السلطة بمستوياتها المختلفة، ومن بينها طبعا السلطة السياسية في "هي فوضى" الذي كتبه وأخرجه بالاشتراك مع خالد يوسف عام 2007، وتنبأ فيه بما حدث فعلا بعد ذلك بخمسة أعوام في 2011 وكان هو قد فارق عالمنا، للدافع نفسه الذي شاهدناه في الفيلم، وهو الوقوف أمام البطش البوليسي المتمثل في "حاتم" الشرير ذاك، من دون أن يعني الأمر بالضرورة وجود تصوّر ما عن مرحلة ما بعد التخلص من ذلك المخبر الفاسد والضباط الذين يحمونه.
كيف كان يُمكن أن يتصرف "جو" كما كان يناديه المقربون منه، أمام سلطة وسائل التواصل الاجتماعي، وهو الذي عاش كـ" ترند" قبل زمن "الترند"، لأن أفلامه ظلت تُخاطب الناس، وتستفزهم، وتتعاطف معهم بصدق، وتستأمنهم على حكاياته الشخصية جدا وإن بدت بالنسبة إليهم صادمة، وقصص حُبه العابرة أو المتمرّدة. ولم يكن يعني ذلك عنده أن يخضع تماما لهم ولأذواقهم، تلك التي قد شكلتها السينما المصرية بتياراتها المختلفة. ظل شاهين يرى الناس، وجعلهم يرونه، وهو أحد أشهر المخرجين في تاريخ السينما المصرية، إن لم يكن أشهرهم على الإطلاق، وشهرته هذه لا تتوقف عند حدود مصر أو العالم العربي، فكان يتمتع بحضور كبير في فرنسا على سبيل المثال، وقد اتخذت أفلامه مثل شخصه، من العالم كله حيزا لها، من دون أن يفقد طبعا نكهته المصرية. في أحد آخر أفلامه وهو "سكوت ح نصور" 2001 غنّت لطيفة من كلمات جمال بخيت وألحان عمر خيرت: "تعرف تتكلم بلدي/ وتشم الورد البلدي/ وتعيش الحلم العصري/ يبقى أنت أكيد المصري".
"بابا أمين"، أول أفلام يوسف شاهين، ليس أشهر أعماله ولا أكثرها مشاهدة، وهو يُذكر إلى حد ما بأجواء السينما الصامتة، لكنّ به شيئا طليعيا وساحرا في الوقت نفسه
لا يمكن حصر جميع أفلام يوسف شاهين في مقالة واحدة، لكننا سنحاول الوقوف على بعض الإرث السينمائي الذي تركه جو، وبعض أهم أفكاره أو رؤاه، هو الذي اختار أن يُذيل توقيعه على فيلمه "المصير" عام 1997 بعبارة: "الأفكار لها أجنحة محدش يقدر يمنع وصولها للناس". وكذلك على شيء من تأثيره على مَنْ عملوا معه، والذين عرفوا لاحقا بـ "تلامذة يوسف شاهين".
إن كانت رحلة تلك التي خاضها يوسف شاهين عبر الخمسة وثلاثين فيلما روائيا طويلا، منذ بدأ العمل في الإخراج السينمائي (وهو بكل تأكيد لم يكن مخرجا فحسب) إضافة إلى خمسة أفلام قصيرة وتسجيلية، فهي بكل تأكيد رحلة للبحث عن "حرية" ما. ولا أقول "الحرية"، فالثانية تبدو كالحلم المستحيل. وكي نفهم أكثر، ربما يكون علينا أن نتأمل قليلا في تاريخ السينما المصرية نفسها.
ظلت السينما المصرية منذ بداياتها أسيرة لقرارات الرقابة على المصنفات الفنية سواء بالموافقة على العرض أو الرفض، وأسيرة كذلك لملاحظات الرقابة حول الأفلام والحياة، لكن ليس الرقابة فقط هي التي تحكمت في ما ينبغي أن يكون عليه شكل السينما في مصر، بل أيضا تلك الفكرة المُمتدة والتي ما زالت سارية حول ما يُمكن ترجمته مجازا إلى "الصورة المتوقعة لمصر كما تظهر في الأفلام" والتي ينتج عنها بطبيعة الحال أحكام حول ما إذا كانت الأفلام "مشرّفة لسُمعة مصر" أو "مُسيئة لها"، وكانت الرقابة بكل تأكيد تمارس هذا التصنيف، بل إن الأديب الكبير نجيب محفوظ مارسه شخصيا مع الأفلام عندما عمل رقيبا، لكن أيضا مارسته الصحافة ومارسه مبدعون آخرون، تاركين بعد ذلك هامشا لا نتوقع أن يكون كبيرا لرؤى المبدع السينمائي نفسه.
في دراستها القيّمة "أفلام الإنتاج المشترك في السينما المصرية" الصادرة عن سلسلة "آفاق السينما" عام 2009، تورد أمل الجمل اقتباسا ليوسف وهبي، في معرض حديثه عن إمكانية تصدير الفيلم المصري إلى الخارج، في بداية خمسينات القرن الماضي: "العقلية الأجنبية لا يمكن أن تقبل فيلما مصريا يصور البيئة المصرية على غير حقيقتها، فلو قدمنا لها فيلما تدور حوداثه بين الصالونات والشوارع النظيفة فلن تُقبل على مشاهدته. إن المخرج الإيطالي يستطيع أن يُعطي الطابع الإيطالي الصميم لفيلمه دون أن يصطدم بقوانين الرقابة، ودون أن يتعرض لهجمات الرجعيين، فيصور البيئة الإيطالية تصويرا صادقا بلا تزويق وبلا زخرفة، لذا وصل الفيلم الإيطالي لمكانة عالمية ممتازة. فإن أردنا التوجه بأفلامنا نحو الإنتاج العالمي فيجب أن تكون قصة الفيلم مصرية صميمة...". وتستدرك أمل الجمل: " لكن أنور أحمد عضو لجنة ترقية التمثيل والسينما عارض الرأي السابق قائلا: أنا كمصري أرفض أن نظهر ما يشوّه سمعة مصر كوسيلة لإرضاء فضول الأجانب".
إلى جانب هذا الخوف على صورة البلد والرقابة، هناك أيضا ضعف الإمكانيات الإنتاجية الذي ظل يعوق خطى السينمائيين المصريين ولا يُمكن حتى اليوم أن نقول إنهم قد تخلصوا منه. وإن كانت السينما قد بدأت تتخلص إلى حدّ ما نحو أواخر الخمسينات، من هذا الخوف المرضي على صورة مصر، وبدأ يظهر إلى النور ما يُطلق عليه تيار الواقعية، والتي تعدّ أفلام المخرج صلاح أبو سيف خير مثال عليها، فقد ظهر فخ جديد هو سلطة المشاهد العادي، أو سلطة "الشعب". في La sortie au cinema أو "نزهة السينما" الصادر عن "دار بارونتيز" عام 2016 (غير مترجم)، وفي حوار الفليسوفة الفرنسية ماري- كلود بينار معه، يبرر صلاح أبو سيف خياره العنيف بقتل شخصية شفاعات التي لعبتها تحية كاريوكا في فيلمه الشهير "شباب امرأة" 1956، بأن موتها كان خيار "الشعب"، وإن كان الشعب يريد مصيرا آخر لشفاعات لكان حققه له أبو سيف، والكلام ما زال له، لأن هذه في نظره هي السينما الواقعية، أي التي تعبر عن "الشعب". ويُثير هذا الرأي لواحد من أهم مخرجي السينما المصرية أسئلة عن حرية المبدع، ومدى أصالة رؤيته، وعلاقته بالجمهور وليس "الشعب"، لأن هناك عدة جماهير وليس جمهورا واحدا، أما الشعب فواحد، وغالبا ما ترد الكلمة في سياقات سياسية وتحشيدية أكثر مما في سياقات إبداعية. قد نستنتج من ذلك أن صلاح أبو سيف كان يستهدف جمهورا بعينه، ويريد أن يُرضيه، لأنه هو بطبيعة الحال الذي يدفع ثمن التذكرة.
"بابا أمين"
هذه هي الأجواء الفكرية السائدة في الحقبة التي بدأ فيها يوسف شاهين رحلته السينمائية عام 1950، بفيلمه الأول "بابا أمين". كان في الرابعة والعشرين من عمره، عاد للتو من دراسة المسرح في أميركا، لم يتضح أمامه الطريق بعد، لكن الشغف يدفعه ليُحقق حلمه الأول في هذا الفيلم الذي ينهض بدوره على حلم. "بابا أمين"، أول أفلام يوسف شاهين ليس أشهر أعماله ولا أكثرها مشاهدة، وهو يُذكر إلى حد ما بأجواء السينما الصامتة، فيلم قديم، لكنّ به شيئا طليعيا وساحرا في الوقت نفسه. الفيلم يبدأ بسمة شاهينية لذيذة وهي المزحة، مزحة الطفل "نبيل" الذي يحب الإيقاع بمن حوله عن طريق إجبارهم على ترداد كلمات مُعينة بترتيب مُعين غالبا ما يؤدي إلى الخطأ. هذا الطفل "العفريت" كما يصفونه في الفيلم، يشبه يوسف شاهين نفسه، والمفارقة أنه يشبه أحد أحبِّ الممثلين إلى قلب جو، ذلك الذي لعب دوره في أحد أفلام سيرته الذاتية، وهو مُحسن محي الدين. اشترك شاهين في كتابة هذا الفيلم مع حسين حلمي المهندس، وهو من تمثيل: حسين رياض، فاتن حمامة، كمال الشناوي، هند رستم، فريد شوقي وماري منيب. يروي "بابا أمين" قصة عائلة أمين الذي يجازف ذات يوم باستثمار كل ما يملك من مال للمشاركة في مشروع تجاري مع صديقه "مبروك أفندي" من دون أن يطلب منه ضمانات كافية. تتراكم على أمين الهموم، وسريعا تفارق الروح جسده المُتعب، وتعبر وحدها إلى الجانب الآخر. هناك يلتقي أمين والده، والدور يلعبه أيضا حسين رياض. يتكفل الأب بشرح الموقف الجديد والغريب لابنه، ويُحاول أن يُقنعه أنه لم يعد يملك شيئا لأسرته المعذبة في الأرض، هذه هي كل المساعدة التي يقدمها الأب مصحوبة بالكثير من عبارات السخرية.
أن يضبط شاهين مقاديره، ويعرف متى يتمرّد وكيف وتحت أي ظروف، هي واحدة من الحيل الذكية التي انتهجها في سعيه إلى مواصلة عمله السينمائي داخل مصر، وكذلك إلى المزيد من إزاحة الحدود، والوصول لصيغة تضمن له حرية إبداعية ما
لكن أمين، لا يستسلم لهذا العجز، ويحاول بلا فائدة أن يحمي ابنته "هدى" (تلعب دورها فاتن حمامة) التي تُضطر من أجل إعالة الأسرة للغناء في تياترو يُديره رجل خبيث (فريد شوقي) يحاول النيل من شرفها!
تُغني هدى أغنيات هي عبارة عن رثاء صافٍ للذات أمام تصاريف القدر، تلوم فيها الأهل الذين قادوها إلى هذا المصير. وطبعا ليست فاتن حمامة، هي التي تغني بل هو صوت مطربة أخرى، لكنه شكل الأفلام في ذلك الزمن، ويحافظ جو على هذا الشكل في أول أعماله. هل نقول إنه مارس نوعا من المواءمة؟
يتأمل أمين ما يحدث لأسرته كطيف، ويتأمل نبيل الصغير ما يحدث بشعور بالأسى والعجز يتجاوز ثقله سنوات عمره القليلة. في أحد المشاهد، يتمدد الصغير على أريكة، ويغمض عينيه لنتخيل أنه يتمنى لو كان هو الذي مات، وليس الأب. هذه الفكرة سنراها بوضوح أكبر في فيلم شاهين السيري "إسكندرية ليه؟"، الذي يحكي فيه الأزمة المادية العنيفة التي حلّت بأسرته، ودفعت الأب لتزويج أخت شاهين من رجل يكبرها بأعوام كثيرة، إنقاذا للأسرة، أما شاهين الذي يغرق في شعور الذنب، وفي تأمل عجز والده وانهزامتيه (يؤدي دوره محمود المليجي)، فهو لن ينسى أبدا العبارة التي قالتها جدته بعد صدمة الوفاة المبكرة لشقيقه الأكبر: "يا ريت الصغير كان هو اللي مات!"، في إشارة إلى يوسف شاهين نفسه. وكأن التضحية بشاهين أو بنبيل، كانت لتبعد اللعنة عن أهل البيت.
لكن "بابا أمين" لا يستسلم لكل هذه التعاسات. ينحاز شاهين إلى الضحك والمزاح، على طريقته الخاصة. ونهاية الفيلم هي مفاجأة، تشهد استعمالا سابقا للأوان لتقنية يشيع استخدامها حاليا في السينما العالمية وهي "الحبكة الملتوية" أو "البلوت تويست".
في "بابا أمين" تظهر ملامح أولى للصيغة الشاهينية التي سنعثر عليها بشكل أو بآخر، في أفلامه التالية، من أكثرها جماهيرية إلى أقلها.
مواءمات شاهين
أن يضبط شاهين مقاديره، ويعرف متى يتمرّد وكيف وتحت أي ظروف، هي واحدة من الحيل الذكية التي انتهجها في سعيه إلى مواصلة عمله السينمائي داخل مصر، وكذلك إلى المزيد من إزاحة الحدود، والوصول لصيغة تضمن له حرية إبداعية ما.
قدم أفلاما للدعاية السياسية، إضافة إلى "صلاح الدين"، هناك فيلمه "الناس والنيل" 1968، وقد كلفته المؤسسة العامة للسينما في مصر بتقديمه، بالاشتراك مع مؤسسة السينما في روسيا للدعاية لمشروع سد أسوان. ويُنجز شاهين النسخة الأولى من الفيلم، على مزاجه، لكن المؤسسة ترفضها لأنه بدلا من أن يُمجد المشروع ذهب إلى انتقاد ما كان يرى أنه جدير بالانتقاد في المجتمع المصري. لا يستسلم شاهين، ولا يجد غضاضة في أن يستعيد النسخة الأولى من الفيلم ويُعيد العمل عليها وتصويرها، كي يصل إلى نسخة جديدة صالحة للعرض، توافق عليها المؤسسة، ولولا هذا الموقف المرن ما كان رأى الفيلم النور.
في بداياته أيضا قدم شاهين أفلاما غنائية مع فريد الأطرش، "ودعت حُبك" و"أنت حبيبي" والفيلمان صدرا في النصف الثاني من الخمسينات. يُعلق إبراهيم العريس على هذه الاتجاه عند شاهين في كتابه الصادر عن دار الشروق عام 2009 "يوسف شاهين... نظرة الطفل وقبضة المتمرد" قائلا: "المخرج الذي حقق بعض أجمل روائع السينما العربية – خائضا في سبيلها ألف معركة ومعركة – هو نفسه الذي حقق ميلودرامات غنائية قد لا تتماشى كثيرا مع سمعته (سلسلة أفلام مع فريد الأطرش وغيره، يصعب على المرء تخيل تحقيق شاهين لها، حتى وإن كانت تعتبر من أفضل أفلام هذا الفنان الموسيقي الغنائي الكبير وأفلام غيره من نجوم عملوا مع شاهين كنجوم لا أكثر)، وهو نفسه الذي حقق أعمالا هي أقرب إلى فن الدعاية الديماغوجية (حتى ولو أننا كنا نتمنى لو أن كل الفنون الديماغوجية العربية تأتي على هذا المستوى).
ولا يمنع ذلك أن شاهين أخرج من إنتاج المؤسسة أحد أكثر أفلامه جماهيرية وهو "الأرض" عام 1969، وكذلك فيلمه الهام "الاختيار" 1970. ولم يتحرر شاهين نسبيا قبل العام 1972، حين قرر تأسيس شركة إنتاج خاصة به وهي "أفلام مصر العالمية"، وأن يخوض عدة تجارب للإنتاج المشترك، مع الجزائر مثلا في فيلم "العصفور" 1973، ومع فرنسا بالذات، التي قدم معها 11 فيلما، واكتسب حرية تعبير أكبر من التي كانت له من قبل وهو يصنع أفلاما تجارية للسوق، أو أفلاما للدعاية السياسية. لكن مع التعاون الفرنسي، ستأتي تُهمة، ما زالت تُوجه حتى اليوم لصناع السينما الشباب عندما يلتمسون تمويلا أوروبية لتحقيق أفلامهم: الإساءة لسُمعة مصر، وصناعة أفلام تُرضي الخارج فقط.
رؤى شاهين
كان تأسيس "أفلام مصر العالمية" خطوة أساسية في مشروع شاهين السينمائي، فقد منحه ذلك حرية حركة أوسع، ومساحة تجريب أكبر. بات يتحمل الخسارات المادية لأفلامه، لم يعد هناك مَنْ يؤنبه أو يوجهه. ولا نتخيّل أن شاهين كان ليُخرج رباعية أفلام سيرته الذاتية مثلا، لولا "مصر العالمية"، وما كان ليُقدم فيلما شعريا واستثنائيا في أسلوبه السينمائي والتشكيلي مثل "اليوم السادس" 1986، ولا كان ليُسند الدور إلى داليدا، على الرغم من كل الانتقاد الذي استهدف تمثيلها، ربما لأنها أجنبية، لولا "مصر العالمية". وذلك على الرغم من أن "صديقة" التي يهيم "عُكا" الشاب بُحبها وهي جدة يائسة من العالم تحاول حماية حفيدها وقد أصيب بالكوليرا من شرطة الوباء، قد ساعدت داليدا في ترك صورة جميلة عنها وهي تحارب الاكتئاب وتودّع العالم قبيل عام واحد من انتحارها. صديقة تتحدى أيضا الأفكار الشائعة عن أن النساء لا يُصادفن الحب بعد أن يتجاوزن مرحلة الشباب.
على أي حال، ليس "اليوم السادس" وحده هو الذي أغاظ فريقا من النقاد اتهموا شاهين بالتعالي على الجمهور، ويحق لنا أن نقول إن الجمهور الذي قصده بعض النقاد هنا هو بلا شك الجمهور الذي خضع لتربية سينمائية متحفظة وتقليدية إلى أقصى حد، كالجمهور الذي تكلم عنه صلاح أبو سيف وأراد رؤية شفاعات جثة في نهاية الفيلم. جاء قبله "الوداع بونابرت" 1985، الذي ضمنه يوسف شاهين ظاهريا رؤيته للحملة الفرنسية على مصر، وأثار من هذا الجانب اعتراضات مَنْ رأوا أن فيلمه لا يُطابق الأحداث التاريخية. وربما أن شاهين لم يكن يصنع فيلما تاريخيا تماما، بل كان يُقدم رؤيته عمّا يُمكن تسميته، مع الكثير من الاختزال، نوعا من الحوار بين الحضارات. اليوم يُمكن لمشاهدة ثانية لهذا الفيلم أن تلفت نظرنا على سبيل المثال، إلى دور المُترِجم في الحوار بين الثقافات، وإلى أزمته الوجودية والشخصية، ووحدته فيها، فهو ممزق بين عالمين، فلا يرضى عنه أحدهما إلا ويلعنه الثاني.
هذا السعي المستمر إلى التحرر من القيود، والإصرار على التعبير عن هموم الذات مهما استصغرها الآخرون، وهموم البلاد كما تراها هذه الذات، لا بد أنه قد ترك أثره في أجيال السينمائيين اللاحقة
تنقل أمل الجمل عن روبير سوليه في كتابه "مصر ولع فرنسي" تعليقه على هذا العمل لشاهين: "أصاب هذا الفيلم الجمهور الفرنسي بالحيرة بسبب غموضه والحوارات الأدبية التي جعلت المشاهد يفقد معالمه. لا نستطيع القول إنه فيلم ناجح. وعلى الرغم من قسوة المخرج الشديدة ضد الاحتلال الفرنسي إلا أنه أراد توضيح وجه آخر للاستعمار يسمح بالتلاقي وبالرغبة الجنسية بل حتى بالحب. وقد رفض عمدة مدينة كان حضور عرض ذلك الفيلم الذي اعتبره معاديا لفرنسا. كما انقسم حوله النقاد فكتب سيرجي داني في جريدة ليبراسيون وداعا بونابرت لا يُشبه شيئا، ولا يمكن أن يشابه شيئا، لأن هذه اللوحة حميمية، وهذه الرؤية جدلية وهذا الماخور منطقي".
ولعل شاهين كان يصفّ نفسه وشعوره بموقعه من العالم، وهو يحكي عن علي المُترِجم، ألم يكن شاهين نفسه مُترِجما بمعنى ما؟
الحرية كمان وكمان
أثارت أفلام شاهين التالية بعد ذلك المزيد من الجدل والمشاكل مع الرقابة، لكن سُمعته كمخرج سينمائي كبير ينتظر العالم أعماله، كانت تقف حائلا دون المنع التام لأفلامه، من دون أن تحميها بالضرورة من عنف النقاد، الذين حاولوا مرارا تشذيب شاهين، أو صناعة شاهين آخر بمقاسات تناسب الذوق الجماهيري والمعادلات النقدية الجاهزة.
هذا السعي المستمر إلى التحرر من القيود، والإصرار على التعبير عن هموم الذات مهما استصغرها الآخرون، وهموم البلاد كما تراها هذه الذات، لا بد أنه قد ترك أثره في أجيال السينمائيين اللاحقة على شاهين. إن كان صار في مصر ما يُعرف بتيار السينما المستقلة، بغض النظر عن التقييم النقدي والجماهيري لأفلام هذا التيار، فيرجع الفضل إلى شاهين في توسيع مساحة الحلم التي سمحت لصُناع السينما المستقلة بالمغامرة والبحث عن طرق جديدة لإنتاج أفلامهم. اليوم تحتضن شركة "أفلام مصر العالمية" ويُديرها أقارب شاهين، ماريان وغابي خوري، مشروع سينما "زاوية" التي تعرض أفلاما مستقلة من كافة اللغات، من بينها العربية بالطبع، كما دشنت مصر العالمية وزاوية فعاليات سينمائية سنوية، كبانوراما الفيلم الأوروبي وليالي القاهرة السينمائية، وهي فعاليات مؤثرة في المشهد السينمائي المصري، وباتت نافذة بديلة على ما يجري في الصناعة السينمائية سواء عربيا أو دوليا.
"تلامذة" شاهين
ارتبط اسم شاهين بأسماء كثيرين ممن عملوا معه كمساعدي إخراج، أو شاركوه حتى في كتابة السيناريو. صار بعضهم لاحقا مُخرجين مُستقلين، تنوّعت بطبيعة الحال أساليبهم الفنية ورؤاهم السينمائية والفلسفية. هناك مثلا أسماء البكري صاحبة "شحاذون ونبلاء" المقتبس عن عمل لألبير قصيري، وهناك بالطبع يسري نصر الله الذي يمتد إلى اليوم نشاطه في الإخراج السينمائي وفي إلقاء محاضرات عن فن السينما للشباب المُهتمين. هناك أيضا أمير رمسيس المخرج السينمائي الشاب وآخر أعماله فيلم "حظر تجول" 2020، وهو يشغل حاليا، إلى جانب عمله الإخراجي، منصب مدير مهرجان القاهرة السينمائي الدولي.
هناك أسماء أخرى، لكن الاسم الأكثر بروزا يبقى خالد يوسف، الذي ظهر كممثل مع شاهين في فيلمه "القاهرة منورة بأهلها" عام 1991. ويبدو أنهما تفاهما بما سمح بتطور تعاونهما الفني، ليشترك خالد يوسف مع شاهين في كتابة سيناريوهات أفلام "المصير" 1997، "الآخر" 1999، "إسكندرية.. نيويورك" 2004. وفي آخر فيلم سينمائي أنجزه شاهين "هي فوضى" 2007 لم يكن خالد يوسف كاتبا للسيناريو فقط بالاشتراك معه، بل أصرّ جو على إضافة اسم خالد يوسف إلى لافتة العمل، وقد رأى البعض في هذه الإضافة كرما من المخرج الكبير، سوى أن شاهين نفسه أجاب عندما حدثوه عن هذا "الكرم" قائلا إن هذه هي الحقيقة، وليس هناك ما يدعو للاستغراب في هذه الإضافة.
شخصيا أرى أن هذا النسب الأخير يُمكن رؤيته كتنصل من شاهين أكثر مما يُرى ككرم. الفيلم الذي بشّر بثورة قادمة لا محالة، اعتراضا على القمع البوليسي المُخيف أيام حكم مبارك، كان يحمل أيضا بصمة خالد يوسف ورؤيته الإخراجية، التي عرفناها في أعماله الخاصة مثل "حين ميسرة"، بل وبدا شاهين كمُخرج في "هي فوضى" حاضرا بنسبة أقل وإن لم يغب بالطبع تماما. يُمكن لوضع شاهين الصحي الحرج أثناء العمل على الفيلم أن يُفسّر تذبذب مستوى الفيلم. مع ذلك، يبدو لي أن إصرار شاهين على اقتران اسم خالد يوسف باسمه في تيترات الفيلم، على ما فيه من اعتزاز أكيد بمُساعده، هو إدراك للفارق بين رؤية شاهين الفنية والإنسانية وبين رؤية خالد يوسف. وهو أيضا تفريق عادل ومُستحق بين شخصيتين سينمائتين لكل منهما أثره.
تنهض سينما شاهين في المقام الأول على تجربته الشخصية وتكوينه المعرفي والثقافي في زمن محدد، وكذلك على رؤيته التي كوّنها طوال سنين حياته، ومن الظلم أن ننتظر من أي أحد ممن يطلق عليهم "تلامذته" – والتلمذة تتطلب نوعا من التلقين والسينما ليست فنا تلقينيا - أن يُحاكوا هذه الرؤية للعالم أو تلك الرحلة الزمنية. إن زمانهم، أو أزمنتهم إن شئنا الدقة، غير زمن شاهين. والمُعلم الجيد، على أي حال، هو بالضبط الذي يدفع طلابه لاكتشاف طرقهم، وإن ابتعدوا تماما عنه.
كان شاهين مؤمنا بالحرية، باحثا لا يملّ عنها، وفي موضع آخر ربما نقول "الديمقراطية"، وهي كلمة "تزعل الناس" أحيانا حسب تعبير المخرج الكبير داود عبد السيد، لكن شاهين تمسك كثيرا بها. وقد قال ذات يوم في حوار الناقد سمير فريد معه: "أنا قوميتي إنسانيتي الإسكندرية... الإسكندرية عندي ليست مجرد مدينة وإنما فكرة عن حياة مفتوحة بلا خوف، عن حياة ديمقراطية بغير حدود مثل الأفق في الإسكندرية، مثل البحر المتسع لكل شيء... ملء العالم كله".